بطل المصلحة الوطنية الأمريكية اللاإنسانية
تهيمن على ثقافة وسلوكيات الغرب الاستعماري مجموعة صغيرة من الإعلاميين

بقلم /د. علي محمد فخرو
لو كان هذا العالم يسير حسب مقاييس الالتزامات والمُمارسات والقيم الإنسانية، وليس حسب المصالح الوطنية الانتهازية، لما رحب منذ بضعة أيام بإشعال شمعة المئة عام لوزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر.
لكنه عالم تحكمه أقلية صغيرة، أقلية المال ومؤسسات الأمن وشركات العالم الكبرى وخدمها من السياسيين الانتهازيين، والتي تضع لهذا العالم مقاييس وأشخاص الاحتفاء وموازين الرفض والتحقير.
وإلا، فهل حقًا أن سلسلة الأخطاء والخطايا السياسية والعسكرية والأخلاقية التي تبنّاها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، ووضع تفاصيل استراتيجياتها وخططها، والتي نتج عن تنفيذها من قِبل مؤسسات الجيوش والاستخبارات والشركات الأمريكية وحلفائها في بلدان الاستعمار الغربي من موت وتشريد ملايين البشر الأبرياء في بلدان آسيا وأمريكا الجنوبية والوطن العربي وبقاع كثيرة عبر الكرة الأرضية.. هل حقًا أن تلك الصورة البشعة تستحق أن يُحتفى ببطل واضعها ومُنفذها؟
ولنذكّر، من ينسون، أن تلك السياسات جمعت فيما بين المبادئ والمُمارسات الميكيافيلية الانتهازية الاستغلالية الشهيرة وما بين شيطانية سياسية مغوية ومُغرية ورافضة لكل القيم الإنسانية ووضعت كلها تحت شعار واحد هو شعار المصلحة الوطنية الأمريكية.
فليس بالمُهم أن يموتَ الملايين في حروب وصراعات كمبوديا واللاووس، ولا أن يُغتال مئات الألوف من اليساريين والشيوعيين في إندونيسيا من قِبل الاستخبارات الأمريكية والإندونيسية العسكرية، ولا يهم إسقاط وتنحية العديد من قادة آسيا وأمريكا الجنوبية الذين انتخبوا ديمقراطيًا وحكموا وطنيتهم وإنسانيتهم، ولا يهم إسناد أشكال من الديكتاتوريات العسكرية الانقلابية في مُختلف البلدان، لا يهم كل ذلك طالما أن كل تلك الموبقات تخدم الشعار الأمريكي المُقدس: المصلحة الوطنية الأمريكية.
ولا يهمنا إطلاقًا ما سيسرده البعض من مدح لعبقرية الرجل السياسية ولا لبعض نجاحاته الكبرى، من مثل إصلاح البين بين الصين وأمريكا على حساب الاتحاد السوفييتي، فهذه كلها لا تُساوي، في ميزان العدالة الإلهية والقيم الإنسانية والحقوقية والأخلاقية، مقدار ما ذرفت الملايين من دموع وما سالت من دماء وما دمّر من أرض وما قاد إلى هجرة الملايين إلى المنافي وبؤس الغربة.
وبالنسبة لنا نحن العرب، «كيسنجر» هو الذي تفتق ذهنه الشيطاني عما يُعرف بسياسة الخطوة خطوة بعد حرب 1973 والتي قادت إلى إبعاد القطر العربي المصري عن الصراع العربي – الصهيوني، والذي أدى شيئًا فشيئًا بدوره، بقصد أو بدون قصد، إلى الوضع البائس التطبيعي الذي نراه أمامنا الآن. ولا يمكن أن ننسى أبدًا قولته الشهيرة إلى أحد المُراسلين بأن ما يهم أمريكا هو رضا وموافقة ثلاثين مسؤولًا عربيًا فقط، أما الملايين من الشعوب العربية الآخرين فلا قيمة لهم في حسابات الربح والخسارة الأمريكية.
ولكن هل هذا غريب على الغرب الاستعماري، الذي تُهيمن على ثقافته وسلوكياته مجموعة صغيرة من الإعلاميين، فتنير صورة هذا وتطفئ صورة ذاك؟ لا، ليس بالغريب بعد أن رأينا كيف تعامل هذا الغرب مع كذبة من أمثال رئيس وزراء بريطانيا الأسبق بلير وصديقه الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الابن عندما تآمرا على تدمير العراق وتشريد شعبه دون أن يوجّه أحد سؤالًا واحدًا إليهما.
كان الواجب ألا تنار شمعة في نيويورك، بل أن يُطفئ الحاضرون شمعة الحضارة الغربية، إيذانًا بأفول قيمها وبذاءاتها.