كتاب الراية

عن شيء ما .. غربة الوطن

هكذا يبدو الاغتراب قابلًا لاجتياحنا في أي زمان ومكان

من غربة البلد إلى غربة الأهل إلى غربة الروح، هو شعور بشيء من الفقد وكثير من الصقيع وعميق من الوحدة.

كل أصناف الغربة من عائلة جينية واحدة، فغربة الوطن كغربة الروح تمامًا، والأشياء التي نفقدها مثل الأوطان التي نُغادرها ننسلخ عنها لتبقى عالقة في جلد الروح.

تُعشّش في غابات أعماقنا مثل بقايا قصة حب تقبع في الذاكرة جثة هامدة غير قابلة للتحلل والفناء، شعور يُطل بين حين وآخر مُعلنًا أنه ما زال حيًّا يُرزق مهما طال الزمن.

ذلك لأن الأوطان، مثل الأحبّة، مثل الأموات ممن رحلوا، وحدنا نملك أرشيف حياتهم في ذاكرتنا كمحطات عصية على النسيان في انتظار زيارتها ولو في السنة مرة، هكذا يبدو الاغتراب قابلًا لاجتياحنا في أي زمان ومكان وبأي معنى أو شكل.

لكني أعترف ثم أعترف بأني لم أكتب يومًا في هذه الغربة شاغلة عقول ووجدان شعراء ربّما لم يحلُ لهم الإبداع إلا في بلاد المهجر، فهي مُعذبة قلوبهم ومُلهمتهم المُشتعلة بالحنين الأبدي، لكني من هؤلاء المُغتربين بالولادة ممن يبدون كأبناء غير شرعيين لها، لا أعرف لهذه الأم شكلًا أو عنوانًا، إذ للغربة ثمن ومرارة يعرفهما تمامًا من أدمن على وطن أو صداقة أو حب أو حتى سيجارة، هو الفقد المؤلم حدّ الانشطار نصفين، نصف للحاضر ونصف للماضي.

أكثر أنواع الغربة طرافة وغرابة، نوع آخر من الغربة لم يختبرها الكثيرون، غربة بلا مرارة، بلا فقد، غربة مؤجلة إلى حين وهي (غربة الوطن).

تعرفها فقط عندما تزور وطنًا لم يشهد طلق ولادتك أو عبث طفولتك أو جنوح شبابك لكنه يتوقع أن تعود إليه كهلًا أنهكه السؤال.. كيف هي العودة؟ ومتى؟ ولماذا؟

عندما تُولد وتُولد معك غربتك تُصبح غريبًا في بلدك الأصل تمامًا مثل غريب في بلدك المنشأ، ثم يتجزأ ذلك الشعور بالانتماء بين وطنين ضرّتين كل منهما تُراهن على رصيدها ومكانتها في قلب الغريب، عندما تُولد غربتنا معنا تُؤاخينا لتتنحّى عن دورها كموضوع أو قضية أو شعور طارئ يُلحّ لعودة ويَحنّ إلى ماضٍ!

أين هي الغربة في قاموس المُغتربين بالولادة؟

وهل من ترجمة لمعناها في وجدان من كبر في حضن وطن آخر ربّاه ورعاه؟

ضائع هو الجواب ما بين وطن يعدنا بالعودة ولا نملك فيه تاريخًا وجدانيًا يُبشّر بالوفاء بالوعد، ووطن يعدنا بالرحيل في حين نملك فيه مساحات شاسعة من الشعور بالانتماء ومؤن زمنية مُتخمة بالسكينة تُغطي كفاف العمر الطويل؟

الغربة كلمة تصعب ترجمتها أحيانًا.

 

 

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X