بيني وبينك … رسائل «1-2»
فَنّ الرسائل بين الأدباء أو بين المُحبّين أكثر ما يُنشَر هذه الأيام

بقلم/ د. أيمن العتوم:
حينَ سُجِنتُ عامَ 1996م، كان أبي يتواصل معي على صعيدَين مُهمَّين، الأول التّواصل الجسديّ البصريّ، والثّاني التّواصل الروحي. فأمّا البصريّ فلمْ يُخلِ أسبوعًا من الفترة الّتي قضيتُها خلفَ القُضبان إلا زارني فيها، وأمّا التّواصل الرّوحي، فكان يُخاطبني بقلمه؛ يكتبُ إليّ الرّسائل، وينشرها في الصّحف، حتّى وإنْ كانتْ هذه الصّحف غيرَ مسموحٍ لها بالدّخول إلينا في السّجن. كانتْ رسائلُه تقول لي ما لم يقلْه حينَ يفصل بيننا زُجاج الطّاقة التي يراني من خلفها في سجن سواقة وفي سِواه. رسائلُ أبٍ حانٍ يرى في هذه الكلمات تثبيتًا لابنه، فالأب أفضل مَنْ يُقدّر قيمة الكلمة في التّثبيت وفي رفع المعنويّات، وفي القضاء على اليأس والذّهاب بالحزن، وقصّة طلحة بن عبيد الله مع كعبِ بن مالك حينَ وقف إلى جانبه، وشدّ على يدَيه وعانَقَه إذْ تاب الله عليه، هي في ذات الباب، وقول كعب: «والله لا أنساها لطلحة». هو قولٌ يصلح لكلّ حالةٍ مُشابهةٍ حينَ تجدُ مَنْ يقفُ إلى جانبك، ويشُدّ من أَزْرِك، ولا يترككَ وحيدًا نهبًا للأفكار السّوداء، وأنا أقول: «والله لا أنساها لأبي أبدًا».
الرّسائل التي تفيضُ بالعاطفة من جهة، وبما يراه الأب في ابنه من الصّبر ويَحُثّه على مزيدٍ منه، وما فيها من لغةٍ عالية، وأسلوبٍ أدبيّ، هي فريدةٌ في بابِها، وإنْ نُشِرتْ فإنّها ستكون نموذجًا لكلّ نوعٍ من هذه العلاقة بين الأب وابنه، أو بين أيّ اثنَين إذا ما وقعتْ لأحدهما محنةٌ من نوعٍ ما، وامتلك الثّاني أداةً جليلةً ليُخفّف عنه؛ وهي الكلمة.
وفَنّ الرّسائل بين الأدباء أو بين المُحبّين أكثرُ ما يُنشَر هذه الأيّام، وهناك عشراتُ الكتب التي طُبِعتْ في هذا المجال، وقرأتُ أكثرها. وهي تكشفُ في معظمها عن الجانب الإنسانيّ في أدباء أو مُفكّرين استأثرتْ أفكارُهم وفلسفاتهم بألبابنا، ولم نلتفتْ إلى الجانب البشريّ منهم، إنّهم أناسٌ عاديّون، يفرحون ويحزنون، يُصابون باليأس، وتقتلُهم الوحدة، وتنهشهم الظّنون، ويُمكن أنْ يُفكّروا بالانتِحار. من قديمٍ قرأتُ (رسائل من السّجن) لسمير الهُضيبي، وكانتْ رسائله إلى خطيبته (مريم)، وقد قرأتُها قبل أنْ أصل إلى الثّانويّة، وتأثّرتُ بلغتها البسيطة الصّادقة المُحبّة. وقرأتُ وأنا في أوّل عهدي بالجامعة كتاب (يوميّات قلعة المنفى) وهو عبارة عن رسائل قصيرة بعثها الكاتب المغربيّ عبد اللّطيف اللّعبيّ إلى زوجته من السّجن بين عامَي (1972- 1980)، وتأثّرتُ بلغتها المُكثّفة. وقِصرُها سببُه استِحالة كتابة رسالة طويلة، فقد كانوا يستخدمون القُصاصات الّتي قد يعزّ وجودُها أحيانًا، في صفحة (29) من هذا الكتاب، نجدُ هذا النّموذج لهذه الرّسائل القصيرة: «بعدَ أيّامٍ قلائل تنقضي سنةٌ كاملةٌ على وجودي في هذا السّجن؛ زمنٌ قصيرٌ وطويلٌ في نفس الوقت، صعب التّحديد. لا شيءَ يُدهِشني لحدّ أنْ ينزع منّي الصّبر، لقد تعوّدتُ على هذا الفضاء الضّيّق، على الجُدران والقُضبان، على رفاق المحنة، وعلى هذا المُربّع الصّغير من السّماء، على الأشجار والمنازل القليلة التي أستطيعُ رؤيتها من بعيد. لكنّ العالَم الخارجيّ يُزمجر مع ذلك في داخلي». وقرأتُ مُتأخّرًا كتاب (هروبي إلى الحرّيّة – أوراق السّجن 1983-1988م) لعلي عزّتْ بيغوفيتش، وهو من أهمّ ما قرأتُ في هذا المجال لأنّه كان في رسائله من سجنه يُفلسِفُ الحياة، ويصوغ نظرته إلى الإنسان، وقد بلغَ عددُها نحوًا من أربعة آلاف قُصاصة عن الحياة والنّاس والحرّيّة، والدّين والأخلاق. وقد فكّرتُ أنّ أحوّل كل واحدةٍ منها إلى قصيدة، وأُحوّل الكتاب إلى ديوان، لكنْ تطاول العمر ولم أُنفّذْ فكرةً عظيمةً كهذه، وكان مثل كثيرين يومئذٍ يكتبون رسائلهم على عُلَب الدُّخان، ويقومون بتهريبها، ولذلك جاءتْ قصيرة، والقِصر يدعوك إلى أنْ تُكثّفَ ما تُريدُ قوله، وتحذف كلّ ما ليسَ له ضرورة، وتنفذ إلى الفكرة مُباشرة، ومن نماذج قصاصاته، هذه التي تملك رقم (2152): «يعتقدُ بعضُ النّاس أنّ انتِماءهم الدّينيّ يُحرّرهم من مسؤوليّة التّفكير». وهذه رقم (3230): «تسأل أنثى الثّعلب والدتَها: هل يوجد يا أُمّي أحدٌ أذكى منّا في هذا العالَم؟ نعم يا ابنتي؛ أولئك الّذين يرتدون فِراءَنا!».
الأردنّ