يكثرُ الحديثُ عن الصحة النفسية وأثرها على حياة الإنسان الخاصة والعامة، لكن هذا الحديث يظل محصورًا في إطاره النظري، وبشكل أكبر في المُجتمعات العربية التي لا يحظى فيها هذا المُصطلح بما يستحقه من الاهتمام، ويظل التردد يحف به لدى خاصة الناس وعامتهم الذين يرفضون بشكل قطعي الاعتراف بأي مرض نفسي كأي مرض يمكن علاجه، خوفًا من نظرة المُجتمع وآراء الناس الذين ينظرون بريبة إلى من يُحاول اللجوء للعلاج النفسي، ولا يرون فيه مجرد إنسان يُحاول التخلص من عيوبه التي لا يُعاني منها أحد آخر سواه.

والفرد الذي يُعاني خللًا في صحته النفسية، يرى الأمور بمنظار يختلف عن غيره من الأسوياء، وهو الأمر الذي يضع أمامه الكثير من التعقيدات في تعاطيه مع الآخرين، سواء على نطاق الأسرة أو المُجتمع أو العمل، الذي هو محور حديثنا اليوم.

في العمل تشترك عدة عوامل لتوفير المناخ المُلائم لجودة الإنتاج ومنها انسجام العاملين في إطار بيئة العمل، وتمسكهم بروح التعاون والمُثابرة لتحقيق الأهداف المُنتظرة بمستوى مُنافس من الجودة وسرعة الإنتاج، وأي اختلاف في نظرة أولئك العاملين تجاه وسائل تحقيق تلك الأهداف سيكون سببًا في عرقلة العمل وعدم الوصول إلى المستوى والمقدار المُستهدفين في خُطة العمل، ومن أسباب هذا الاختلاف في وجهات النظر ما قد يُعاني منه بعض العاملين من عدم الاستقرار النفسي، الذي يدفعهم إلى عدم الانسجام مع غيرهم من العاملين، نتيجة الاضطراب النفسي الذي يقودهم إلى السلوك غير السوي قياسًا على سلوك زملائهم الأسوياء، في بيئة العمل ذاتها.

وفي بعض الدول الغربية تُتيح الشركاتُ والمؤسساتُ الكُبرى فرصَ الاستفادة من العيادات النفسية التي توفّرها للعاملين فيها بهدف الوصول بهم إلى مستوى نفسي سوي يُساعد على سرعة الإنتاج وجودته، ومع ذلك لم تجد تلك العيادات النفسية الإقبال ذاته من جميع العاملين، فمنهم من يتردد في قَبول فكرة اضطرابه النفسي، وهو يُداري هذه المعضلة لدوافع كثيرة يرفض الإفصاح عنها حتى لأقرب الناس إليه، ويرى في مُراجعة العيادات النفسية اعترافًا باضطرابه النفسي، الذي قد يكون مُذلًا بالنسبة له، ليتخذ من هذا الإذلال ذريعةً للهروب من العلاج النفسي، وفي هذا ما فيه من إرباك لبيئة العمل، وخلل في مستوى الإنتاج، وسبب في عدم تطبيق مقاييس الجودة. ويستفحل هذا الأمر في المُجتمعات الشرقية المُتخمة بالأخطاء الفادحة المُتعلقة بالصحة النفسية، حيث يتعدى الاضطراب النفسي العاملين في أي مؤسسة أو شركة ليصل إلى القيادات الإدارية في تلك المؤسسات أو الشركات، عندما تصدر عن تلك القيادات الإدارية قرارات غير مدروسة بهدف تطوير العمل، وتكون النتيجة هي تدمير العمل لا تطويره، مع أن القيادات الإدارية هي الأكثر حاجة لأن تتمتع بصحة نفسية قادرة على تلمس مواطن الضعف والقوة في العمل، وخطورة الأمر أن تصلَ تلك القياداتُ الإداريةُ إلى مناصبها وَفق معايير بعيدة عن الموضوعية، ما يؤدّي إلى تلك النتائج الكارثية الناجمة عن انعدام الكفاءة أو ضعف الشخصية، أو غياب الأهداف، وربما الجهل أو الرعونة في التعامل مع العاملين على اختلاف مناصبهم ومسؤولياتهم.

أحيانًا قد يتحقق بعض النجاح لأصحاب العمل أو المسؤولين الإداريين فيه، لكنه نجاح طارئ ناتج عن ظروف طارئة، مما لا يمكن دوامه أو اتخاذه مقياسًا لحُسن الإدارة، وما لم تتوفر شروط القيادة الناجحة في أي مؤسسة أو شركة فإن تعثرها أمر لا مفر منه، وإن استمرت زمنًا فإن الفضل في استمرارها لا يعود لتلك القيادات الإدارية بل للقوى المُساندة لها من مُساعدين أو مُستشارين أو عاملين يتمتعون بدرجة عالية من الإحساس بالمسؤولية والرغبة في المُحافظة على مصدر رزقهم، وكل هذا لا يعني تحقيق النجاح الذي يمكن أن تُحققه القيادات الإدارية المؤهلة والبعيدة عن الاضطرابات والأهواء والعقد النفسية التي تقود إلى التخبط في تقييم الأمور، وعدم اتخاذ القرارات القادرة على تجاوز مُعضلات العمل وتحقيق أهدافه.

[email protected]