قضايا وأحداث ….التطورات الجديدة في دبلوماسية الحبوب والتعاون بين قطر وتركيا

قامَ الرئيسُ التركي رجب طيب أردوغان بزيارةٍ سريعة إلى روسيا يوم الإثنين الماضي لعقد اجتماع حاسم مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وقد كان هذا الاجتماع مُتوقَّعًا بالفعل منذ فترة طويلة، في زيارة بوتين إلى تركيا. على أي حال كان من المُتوقّع عقد اجتماع بين الزعيمين بعد 17 يوليو الماضي لاستئناف اتفاقية شحن الحبوب التي قررت روسيا عدم تمديدها مرة أخرى.
وكما هو معلوم من قَبل فقد وقَّعت الأمم المُتحدة وروسيا وتركيا وأوكرانيا اتفاقية ممر الحبوب في البحر الأسود في الاجتماع الذي عُقِد في إسطنبول في 22 يوليو 2022 في خُطوة مُشتركة للحدّ من تأثير الحرب الأوكرانية الروسية على أسعار المواد الغذائية العالمية.
وقال المُتحدّث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف في تصريحاته الإثنين 17 يوليو الماضي عن الاتفاقية مُنتهية الصلاحية: «لقد انتهى اتفاق ممر الحبوب فعليًّا، وتم تعطيله؛ لأن الجزء الذي يهم روسيا من الاتفاقية لم يتم تنفيذه حتى الآن، رغم أن روسيا على استعداد للعودة على الفور إلى اتفاقية الحبوب بمجرد تنفيذ الشروط ذات الصلة».
وقد جاء هذا البيان في الواقع تعبيرًا عن شكوى روسيا من عدم تحقق أيٍّ من توقعاتها من اتفاقية ممر الحبوب. ويفضل الغرب بأسره أن يتم تشغيل ممر الحبوب ليكون مفتوحًا فقط أمام السفن الأوكرانية دون الروسية. والواقع أن روسيا ليس لديها أي اعتراض على إبقاء ممر الحبوب مفتوحًا شريطة أن يتم نقل الحبوب الخاصة بها أيضًا؛ لأن السماح للحبوب الأوكرانية فقط بالمرور عبر الممر الذي تم فتحه وتأمينه لا يفيد روسيا بالطبع. هذا إلى جانب أن روسيا تملك صلاحية السماح بفتح الممر أو إغلاقه. لذا فإنه من الضروري العمل على كسب روسيا وإقناعها؛ لأنه رغم نجاح وصول بعض سفن الشحن الأوكرانية عبر البحر الأسود والمضائق، فإن هذا لا يعني إمكانية تَكرار ذلك بسهولة أو دون وقوع خسائر.
كما أنه لا يوجد طرف آخر غير تركيا يمكنه إقناع روسيا بالجلوس على مائدة المفاوضات والتوصل إلى الاتفاق مع أوكرانيا. وهنا تظهر براعة أردوغان الدبلوماسية في التعامل مع الضغوط التي مارسها الغرب منذ البداية على تركيا بشأن فرض العقوبات على روسيا. حيث إن تركيا مع عضويتها في حلف الناتو قد تمكنت باحترافية كبيرة من الحفاظ على خط تواصل وثيق مع روسيا. والحقيقة أن الفضل في استمرار الاتصال بين روسيا والكتلة الغربية وأوكرانيا حتى اليوم يرجع إلى براعة القيادة الدبلوماسية للدولة التركية مُتمثلة في أردوغان.
وفي التصريحات التي أدلى بها الرئيس أردوغان حول هذا الاجتماع على متن الطائرة العائدة من سوتشي، أوضح منهج الدبلوماسية الذي سلكه فيما يتعلق بأزمة ممر الحبوب. كما ردَّ على اقتراح الأمم المُتحدة بشأن هذه القضية وقال: «لدى موسكو طلبان خاصان لمواصلة عمليات نقل الحبوب، الأول: رفع القيود المفروضة على تصدير المُنتجات الزراعية الروسية. والثاني هو: تأمين السفن المُستخدمة في النقل». علاوة على ما أعلنه بوتين حول إعادة البنك الزراعي الروسي إلى نظام سويفت.
وفور إعلان روسيا تصريحات 17 يوليو أنها لن تُمدد اتفاقية الحبوب مرة أخرى، تقدَّمت تركيا باقتراحٍ جديدٍ من خلال الأمم المُتحدة. كما أوضح أردوغان كيف تقدمت العملية المُتعلقة بهذا الاقتراح وإلى أي مرحلة وصلت قائلًا: «الآن تمكنت الأمم المُتحدة بخطوات مُتباطئة قليلًا من إيصال العملية إلى نقطة مُتقدمة بعض الشيء بفضل مُساهمات تركيا المُستمرة. ومؤخرًا وبالضبط في 28 أغسطس الماضي أعلن الأمين العام للأمم المُتحدة أنطونيو غوتيريس عن آلية وسيطة ذات صلة بسويفت لكنها ليست ما يعنيه الروس بطلبهم المُتعلق بنظام سويفت. وأضاف أردوغان: إن العمل ما زال جاريًا بشأن مسألة التأمين على السفن.
ويتضح من هذه الكلمات التقدم الكبير الذي أحرزته المُبادرة الجديدة بفضل مساعي أنقرة. وقد صرح الرئيس أردوغان في مؤتمر صحفي في سوتشي: «لقد أعددنا حُزمةً جديدةً من المُقترحات. وأعتقد أننا سنحصل على نتائج». في تدوينة نشرها على حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي قال: «أعتقد أننا سنتوصل إلى حل يَرقَى إلى مستوى توقعاتنا في وقت قصير». ولا شك أن هذه الكلمات تدل على أن الأمل في إحياء ممر الحبوب لا يزال حيًّا.
وفي صعيد مُعاكس قدمت صحيفة فاينانشال تايمز في 21 يوليو الادعاء بأن الكرملين يبحث عن بديل لصفقة الحبوب التي من شأنها خفض صادرات كييف. وأشارت الصحيفة إلى أن قطر وتركيا لم تؤيدا الفكرة حتى الآن.
وعلى أي حال فإن الإجراءات المُشتركة والتعاون بين قطر وتركيا وكذلك روسيا في أزمة يراقبها العالم بأسره من كَثَب، لا شك يُمثل حدثًا جديدًا ولافتًا في شكل التعاون المثالي بينهم طَوال الفترة السابقة. وهذا في الواقع مُهم جدًّا لإظهاره مدى تعامل كلا البلدين مع القضايا الإنسانية الأساسية بنفس الحساسية والاهتمام، إلى جانب كشفه عن إمكانية تحقيق التضامن الدولي في المسائل الإنسانية الأساسية بنفس الحساسية.
أكاديمي وسياسي
وكاتب تركي