إفريقيا ومعركة الاستقلال والتبعية!

بقلم / سليم عزوز ( كاتب وصحفي مصري )
بصعوبة أمكن للسفير الأمريكي أن يصل لمكتب صديقه بجريدة «الأهرام» أسامة الغزالي حرب، وقد رأى المظاهرات الحاشدة في المسافة من السفارة إلى هناك احتجاجًا على احتلال العراق!
وهناك تساءل في دهشة: «لماذا يفضل العرب الاستقلال على الديمقراطية» . وإذ نقل الغزالي حرب ما قاله السفير، فقد كان هذا دافعي لأن أكتب هنا في «الراية« مقالًا أجيب فيه على هذا السؤال الذي يبدو أنه حيّر السفير، ومن الواضح أن صديقه لا يعرف له إجابة، ومما كتبته أن الشعوب تدرك أنها ستضحي بالاستقلال ولن تحقق الديمقراطية، فحديث القوم عن الديمقراطية هو للغاوية، والشعوب تدرك أن السماء لا تمطر كتاكيت!
تذكرت هذه الواقعة التي مر عليها عشرون سنة، بينما أقرأ لنفر من الكتاب أدهشتهم المظاهرات التي عمت «الجابون» ، و «النيجر» بعد وقوع الانقلاب العسكري، فرحين بها، وإن صفق لها البعض لأنها في موقفها الاحتفالي هذا تعد ترحيبًا بالاستقلال الوطني ولو جاء على ظهر دبابة، بإسقاط الحكومات المدنية الموالية لفرنسا، التي تتصرف في كثير من دول القارة تصرف المالك فيما يملك!
الأمر أكثر تعقيدًا من التصورات البسيطة للبعض، فنحن لا نعرف النسبة المئوية من شعبي البلدين الإفريقيين الذين رحبوا بالانقلابات العسكرية، ومن ثم خرجوا للشوارع، ولكن ليس بالضرورة أن يعبر الخارجون عن كل مؤيدي هذه الانقلابات، التي لا أعتقد أنها ستمثل نهاية لحقبة التبعية والتي قد تستبدل نفوذًا بنفوذ، والتبعية لفرنسا مثلًا بالتبعية لغيرها، فروسيا ليست بعيدة عن زعماء هذه الانقلابات، وإن كانت المراحل الأولى من الانقلابات لا تنبئ بما سيكون عليه الموقف في المستقبل، وقامت ثورة يوليو في كنف الرعاية الأمريكية، لكن بعد قليل دخل عبد الناصر في عداء مع الأمريكان، وتحوّل إلى خصم لهم!
في الحقيقة إن العلاقة المصرية الروسية في هذه الحقبة لم تكن علاقة تبعية كما الحال الذي حدث في أفغانستان في عهد حكومة نجيب الله، الأمر الذي دفع للدخول في معركة طويلة ضد الروس، لم تكن واشنطن بعيدة عنها، لكن لا يمكن اعتبار من نسّقوا معها عملاء، فقد تعاونوا فيما اتفقوا عليه وهو ضرورة دحر الوجود السوفيتي!
وقد لا يجد المتظاهرون ترحيبًا بالانقلاب في النيجر والجابون غضاضة من علاقة تربط عسكرهم بدوائر نفوذ خارجية، لإدراكهم أنه لا يفل الحديد إلا الحديد، وأن استقواء الحكومات المعزولة بالغرب، يستدعي عدم القطيعة مع دوائر خارجية أخرى، وهم هنا يقفون ضد خطر محقق، يستنزف ثروات بلادهم، على مدى أكثر من نصف قرن، خوفًا من خطر محتمل، والشعوب المغلوبة على أمرها توازن بين السيئ والأسوأ، وبين الواقع والمحتمل!
لاسيما أن الحكم المدني هناك، وإن مثّل ذيولًا للاستعمار، ومكّنه من استنزاف مقدرات الأوطان، فإنه ليس عنوانًا إلا لذلك، لأنه ليس حكمًا ديمقراطيًا، ومن هنا فإن إسقاطه هو إسقاط للتبعية لا أكثر من ذلك، ويُعد الحديث عن مدنية الحكم، قريب الشبه بحديث السفير الأمريكي عن الديمقراطية القادمة لبلاد الرافدين مع الحضور الأمريكي، وعندما يستبعد حضور الديمقراطية، فالمقارنة هنا لا تكون بينها وبين الاستبداد الذي يمثله صدام حسين، ولكن بين الاستقلال الوطني والاحتلال الأجنبي، فمن يختار المواطن الحر؟!
والترحيب الجماهيري بالانقلاب العسكري في الجابون والنيجر، لا شأن له بقضية الديمقراطية، لأنها ليست قائمة، ولو كان لها وجود لما كان الخيار الوحيد هو الانقلاب العسكري ولأمكن لشعبي البلدين عزل هذه القيادة عبر صناديق الانتخاب، ولما رحبوا ببيان القيادات العسكرية، والأمر كله، الذي هو في حقيقة الأمر صراع على السلطة، ورغبة في الحكم، وإن بدت الأهداف نبيلة، فكل الانقلابات العسكرية تبشر بالحكم فترة مؤقتة، لا تنتهي، والتجربة المعاصرة التي شاهدنا فيها نبلًا من القيادة العسكرية كانت في السودان على يد سوار الذهب!
قد لا ترى الجماهير أزمة في استبدال أجنبي بأجنبي، تمامًا كما قبلت بخيار القوة، لأنه لا سبيل لها للمواجهة، فلا بأس من الاستقواء بالخارج، كما استقوت بالقوة المُميتة!
وهو أمر يذكرني بالمصريين الذين رحبوا بالألمان، وخرجوا لاستقبالهم، وذلك لمواجهة الاحتلال البريطاني، ولم يكونوا جميعهم كما عباس العقاد، الذي رأى نازية الألمان فهاجمهم وعندما علم بأنهم في طريقهم لمصر، لم يغيّر موقفه، ولكن هرب إلى السودان!
لا خيارات كثيرة أمام شعبي الجابون والنيجر، وهذه محاولة للفهم وليس للتأييد، لإدراكي أن من لسعته الشوربة ينفخ في الزبادي!
كان الله في العون!