شعار الحياد الملتبس

بقلم/ د. علي محمد فخرو:
لو أن أحدهم قال: إنني سأكون بعد اليوم في موقف الحياد فيما بين فلان، الذي عرف عنه أنه كان شريرًا ومؤذيًا وانتهازيًا في كل تصرفاته تجاه هذا المحايد، وما بين فلان، الذي عُرف عنه الهدوء والتعقل والتصرف الحسن تجاه هذا المحايد…. لو أن أحدهم قال ذلك لوُصف من قِبل الناس بأنه لا يمارس التصرف المعقول العادل المتزن في علاقاته الاجتماعية. إذ كيف يساوي في قربه أو بعده بين شخص محبب وشخص مكروه.
الأمر نفسه ينطبق على فهم وممارسة شعار الحياد فيما بين التكتلات الدولية الذي ترفعه هذه الدولة العربية أو تلك. ولنأخذ مثالًا شعار الحياد، المطروح مؤخرًا بصوت عال في الأرض العربية، في علاقات هذه الدولة العربية أو تلك مع كتلة الولايات المتحدة الأمريكية ومن يتبعها ويؤازرها في كل تصرفاتها السياسية والاقتصادية والأمنية من جهة، ومع التكتلات الدولية الجديدة التي تضم دولًا تحاول التخلص من الهيمنة الأمريكية الخانقة، وعلى الأخص هيمنة الدولار في شؤون المال، وهيمنة التكنولوجيا في شؤون التواصل الإلكتروني، وهيمنة القوة والتفوق العسكري، من جهة أخرى.
كيف يمكن معادلة مقدار دفء وحميمية العلاقة الاستراتيجية المتميزة فيما بين العرب وأمريكا وبعض دول أوروبا من جهة وبين دول مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل من جهة أخرى.
فالكتلة الأمريكية، ومعها دول غربية عديدة، لها تاريخ استعماري أسود مع العرب تمثل في الإصرار على نهب ثروات هذه الأمة وتجزئتها والمساعدة في اغتصاب أرض فلسطين وتشريد أهلها وفي التدخل اليومي في كل شؤونها الداخلية وفي ابتزازها المالي والعسكري الدائم وفي منعها من الخروج من ضعفها وتخلفها التاريخي بشتى الأساليب.
بينما أن دول الكتلة الأخرى لم تستعمر قط أرضًا عربية ولم تبتز قط دولة عربية ولم تساهم بأية صورة في تخلف العرب وضعفهم ولا في حماية مغتصبي أرض فلسطين. وكل ما تطلبه هذه الكتلة هي علاقات عادلة وتبادلية في مختلف حقول النشاطات الإنسانية.
ولذلك فإن حمى اللقاءات والزيارات والخطابات المبشرة بعلاقات حب وزواجات مستقبلية مع الكتلة الأمريكية تضيف شكوكًا جديدة في أذهان وقلوب الشعوب العربية وتضيف تأكيدات لا تتوقف بانتشار الخلط والفوضى في فهم وتعريف كلمات الفكر والعمل السياسي. فلا يكفي أن منطلق شعار الحياد هو خاطئ وملتبس حتى يطال ذلك التطبيق اليومي لهذا الشعار ويختلط الحابل بالنابل.
أليس قمة الفوضى في العمل العربي المشترك أن لا تتوقف الوفود عن نسيان ما فعلته الولايات المتحدة وحلفاؤها من تدمير تام للعراق وإرجاعه مئات السنين إلى الوراء، وتدمير واحتلال وتجزئة لسوريا واستمرار في محاصرة الشعب السوري وتجويعه، وتمزيق للسودان واحتلال لليبيا وتجويع للبنان، ولعب أشكال من المراوغة والنفاق عبر الأرض العربية كلها؟ فما أن تهدأ النيران في بقعة حتى تشتعل في منطقة أخرى، ودائما يثبت أن لهذه الكتلة، التي تحمل توجهًا تاريخيًا لتقسيم هذه الأمة وإضعافها وخلق الفتن فيها وزرع الصراعات في كل بقاعها، اليد الخفية فيما يحدث.
لنعد مرة أخرى إلى قلب الموضوع: إذا كان هذا النوع من الحياد فيما بين الأفراد مستهجنًا ومستغربًا، فكيف إذا كان بين الشعوب والدول؟ خصوصًا إذا كانت بعض هذه الدول مدارة من قبل أنظمة حكم أصابها مؤخرًا الخرف والجنون وأصبحت لا يهمها لو أن العالم كله احترق طالما أنها تبقى مهيمنة وصاحبة الكلمة العليا والوحيدة.
والسؤال الأهم هو: متى ستدرك مؤسستا القمة العربية والجامعة العربية التفكير جديًا في تكوين كتلة مشابهة للناتو عربية متناسقة قادرة على أن تحمي أي دولة عربية من الاستباحة. إذا كان كل ما نراه من مِحن وآلام ودموع وفواجع طبيعية لا يحرك ساكنًا في نفوس المسؤولين عن هاتين المؤسستين القوميتين، فهل وصلنا إلى مرحلة الاستسلام التام لمسرحية التلاعب بأقدارنا من قبل كل من هب ودب ومن كل حدب؟ يا شباب وشابات الأمة تنبهوا إلى أن تفرقوا فيما بين الشعارات المخادعة أو المبهمة والشعارات الصادقة فكرًا وتطبيقًا.