قضايا وأحداث.. دعاوى الكراهية في تركيا لا يقبلها المجتمع

«وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ» (إبراهيم:26)
إن أولئك الذين يقومون بحملات عنصرية ضد الأجانب في تركيا هم أقلية غريبة عن الشعب التركي. حقًّا إنهم فئة لم تتمكن من الفوز بأي انتخابات ترشحوا فيها منذ عقود. والأيديولوجية الرسمية التي يعتمدون عليها تتلاشى في الواقع يومًا بعد يوم. وخير دليل على ذلك قلة الكتلة التابعة لهذه الأيديولوجية بشكل ملموس بعد الانتخابات الأخيرة. رغم ما يقومون به من محاولات إظهار قوتهم أكثر بكثير من خلال الدعاية التي يقومون بها عبر وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بهم. والحقيقة هي أنه إذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي تعكس واقع تركيا الفعلي، فما كان لأردوغان أن يفوز بأي انتخابات. ومن ناحية أخرى كانت الفرصة كبيرة لهؤلاء العنصريين ليفوزوا في جميع الانتخابات.
وتجدر الإشارة إلى تلك الحقيقة على وجه الخصوص؛ لأن أصحاب هذا التوجه العنصري فشلوا في جعل الأتراك يكرهون العرب بهذه الخطابات العنصرية التي ينشرونها، لكنهم الآن ربما يحاولون تحقيق أهدافهم بشكل عكسي من خلال نشر تصور معادٍ في أذهان العرب عن تركيا. ولسوء الحظ فإنهم من خلال بعض الأحداث الأخيرة المؤلمة التي وقعت في تركيا، يحاولون استنفار العرب ضد الأتراك من خلال إنتاج تصور كما لو أن جميع الأتراك معادون للعرب. وبغَضّ النظر عما يفعله هؤلاء في الداخل التركي، فإن الغالبية العظمى من الشعب التركي على دراية بهذه السلوكيات العنصرية ولا يُعلون من شأنها أبدًا. فالأقلية العنصرية تعمل في نظام وتنشر أخبارها الكاذبة وترفع أصواتها في كل فرصة لتظهر كراهيتهم وخيانتهم لأمتهم وللإنسانية. وفي مقابل هذا التوجه العنصري نرى الأغلبية التي ترفض العنصرية صامتة غير منظمة رغم قناعتها بأن الكراهية والعنصرية مناهضة للإنسانية كلها.
ولكن في الآونة الأخيرة تبدأ تلك الأغلبية شيئًا فشيئًا في الظهور ورفع أصواتها. ففي الأسبوع الماضي تم تنظيم وقفة تضامنية ضد العنصرية في حديقة فاتح ساراتشان، بمشاركة العديد من منظمات المجتمع المدني، وأعلنت رفضها لهذه الهجمات العنصرية.
في الواقع إن أولئك الذين يدلون بهذه التصريحات العنصرية في تركيا يرتكبون جرائم عنصرية وكراهية بطريقة ما. وهنا يظهر سؤال مشروع لدى الشعب، وهو لماذا لم تتخذ الدولة أي إجراء حتى الآن؟ لأن هذه الخطابات لا تحتوي فقط على مواقف عدوانية تجاه الأجانب. فهناك بالفعل 7 ملايين عربي في تركيا كانوا في الأصل مواطنين أتراك. ولهذا فإن نشر الكراهية ضد العرب في تركيا هو بالفعل جريمة ضد جزء أصيل من تركيا. وبالتالي، فإن الجريمة المرتكبة تقع في نطاق «تحريض جزء من الشعب التركي ضد جزء من نفس الشعب وهذه جريمة كراهية واضحة ضد فئة من الشعب» .
لقد كان موقف الرئيس أردوغان من هذه المسألة واضحًا منذ البداية. حث يقول في كل مناسبة إن عليهم أن يسلكوا سبيل تضامن المهاجرين والأنصار الأوائل نموذجًا حقيقيًّا ضد هذا العدوان العنصري. ولكن في مواجهة هذه الموجة الأخيرة من الخطاب العنصري، من الضروري تجاوز الخطاب والأقوال والانتقال إلى اتخاذ بعض الإجراءات القانونية ضد مَن يؤججون الكراهية والعنصرية في المجتمع.
الآن يمكننا القول إن العمليات التي نفذتها وزارة الداخلية في الأيام القليلة الماضية وتصريحات وزير العدل التركي تُظهر أن الدولة في تركيا بدأت التحرك نحو اتخاذ إجراءات جادة في هذا الصدد. وقد بدأت منتصف الأسبوع، باعتقال مسؤولي الوكالات الإخبارية والمراسلين الخارجيين ومُعدِّي التقارير الإخبارية المعروفين بتقاريرهم الاستفزازية التي تغذي العنصرية وكراهية الأجانب. وكان السبب في هذه الإجراءات المباشرة ضد هؤلاء هو «نشرهم معلومات مضللة للجمهور» . وزادوا من منشوراتهم المتعلقة بالعنصرية خاصة في الفترة الأخيرة ونشروا العديد من الأخبار عن المهاجرين خاصة السياح العرب. وفي نطاق التحقيق، صدرت أوامر اعتقال لما يقرب من 30 مشتبهًا بهم في محافظات تركية عديدة، هي أنقرة وهاتاي وأنطاليا وسامسون وكهرمان مرعش وسَكاريا وإزمير وسِيرت وشانلي أورفا وتوكات وأدرنة وبورصة وإسطنبول, وقد أعلن وزير الداخلية علي يرلي كايا أنه نتيجة للعمليات التي نفذت بتنسيق من المديرية العامة للأمن، تم تنظيم عمليات متزامنة في 14 محافظة ضد مديري حسابات وسائل التواصل الاجتماعي الذين يحرضون الجمهور على الكراهية والعداوة وينشرون معلومات مضللة. ونتيجة لهذه العمليات تم اعتقال 27 شخصًا. وقال الوزير يرلي كايا: إن العمليات ضد الدوائر العنصرية التي تريد جر تركيا إلى الفوضى لن تتوقف.
وجاء تطور آخر في هذا الصدد من وزير العدل يلماز تونش الذي أعلن أن «كراهية الأجانب لن يُسمح بها أبدًا» . وصرح تونش أيضًا أن التحقيقات ضد أولئك الذين يرتكبون جرائم كراهية الأجانب وخاصة نشر العداء ضد العرب بأخبار كاذبة مضللة قد بدأت ولا تزال مستمرة. وقال: «في الفترة الجديدة، لدينا بعض الاستعدادات فيما يتعلق بالجرائم التي تزعزع السِّلم العام وتنتهك الأمن العام. وعلى وجه الخصوص، لدينا تركيز للقضاء على إفلات من يقوم بذلك من العقاب. وبالتأكيد لن نسمح بكراهية الأجانب. وسيتم إجراء المحاكمات وتطبيق الأحكام اللازمة فيما يتعلق بأولئك الذين ارتكبوا هذه الجرائم» .
ومن الواضح جدًّا أن الهدف الحقيقي لحملة كراهية الأجانب الخبيثة هو تضييق الخناق حول تركيا وتوجيه ضربة لتوجهها نحو النهضة والتنمية.
وفي السياق ذاته تابع زعيمُ حزب الحركة القومية دولت بهتشلي الوضع جيدًا، واتهم أولئك الذين حاولوا خلق الفوضى من خلال نشر معلومات مضللة عن اللاجئين بأنهم «قد تجاوزوا الحد» . وجاءت تصريحاته في مؤتمر صحفي بعد اجتماع المجلس التنفيذي المركزي لحزبه (MYK)، وقال بهتشلي:
«أولئك الذين يعتقدون أن اللعب بحساسيات بلدنا -من خلال تدمير البنية الاجتماعية في تركيا واستخدام اللاجئين لخلق اضطرابات داخلية- قد تجاوزوا حدودهم. أولئك الذين يريدون خلق جو من التوتر العنيف على حساب اللاجئين، قد أهانوا تركيا. وعلى الرغم من هذه التطورات، فإننا نسعى جاهدين لقراءة العالم باللغة التركية بإيمان يرى العدالة والإنصاف والمساواة والحرية والسلام والأمن حقًّا من حقوق الإنسان، ويقبل نعم الله وعطاءاته في ضوء ذلك» ، بالإضافة إلى تصريحات بهتشلي، قال أوكتاي سارال أحد كبار مستشاري الرئيس أردوغان: «أوميت أوزداغ الذي أصبح الشخصية الرئيسية للخطابات الفاشِيَّة، هو موجِّه ومدير العنف المتزايد والعنصرية والاضطرابات الاجتماعية في الآونة الأخيرة؛ لأن هذه الخطابات والسلوكيات العنصرية قد انتشرت من شرق بلادنا إلى غربها وبدأت تغرس الكراهية والعداوة في أمتنا بأشكال مختلفة» . وتابع سارال حديثه حول الهجوم على ضيف كويتي في طرابزون: «لا يمكن أن تتوافق هذه الحادثة مع ظواهر «التسامح» و «الأخوة» و «الأمة» الموروثة عن أجدادنا، فهذه الحوادث لا يعرفها مواطنونا في طرابزون ولا أمتنا… والسبب الحقيقي وراء العقل الباطن لمثل هؤلاء الناس هو كراهية الإسلام. واللعبة التي يريدون لعبها معنا واضحة جدًّا، لكننا لن نسمح لهم بذلك» .
ونحن نؤكد على وعي الشعب التركي بهذه الألاعيب التي تحاك ضده، وأنه لن يسمح بالعودة إلى التقوقع والانغلاق الذي لا يضر بتركيا وحدها بل سيكون له تأثير سلبي على المنطقة كلها وربما العالم بأسره.
أكاديمي وسياسي وكاتب تركي