صورة أوقفت العالم

بقلم / سامي كمال الدين ( إعلامي مصري )
قُتل مصورٌ صحفيٌّ وهو يقوم بعمله لصالح وكالة «أسوشيتدبرس» ما دعا شقيقه «هوينه كوونغ أوت» المشهور في العالم باسم «نيك أوت» أن يعمل مكان أخيه، لذا قرر في الثامن من يونيو عام 1972 الذهاب في مهمة لوكالة «أسوشيتدبرس» في بلده فيتنام خلال حرب فيتنام أو ما يُطلق عليها الحرب الهندوصينية الثانية.
وقف «نيك أوت» على الطريق السريع المؤدي إلى قرية ترانج يانغ، مع عدد من الصحفيين والجنود الأمريكيين، وأثناء حديثهم حلّقت طائرتان في السماء، ثم بدأتا بإلقاء قنابل النابالم على القرية وعلى الطريق المؤدي إليها.
وجه «أوت» عدسة كبيرة موضوعة في كاميرا «نيكون» إلى السماء، والتقط صورة للسحابة الضخمة التي غطت القرية عقب إلقاء القنابل، حين كان يعيد عدسته إلى الأرض بعد التقاط صورة من السماء فوجئ بمجموعة من أطفال القرية يركضون في اتجاهه في هلع وخوف، سارع بالتقاط الصور لهم من خلال كاميراتيْه من نوع نيكون ولايكا، كانت الصورة الأولى لسيدة عجوز تحمل طفلًا ميتًا، ثم كانت الصورة الثانية حيث كان يركض هؤلاء الأطفال.. خمسة أطفال بينهم طفلة تفتح ذراعيها متألمة من الحروق، وهي تجري عارية بعد أن تمزقت ثيابها، وأمامها طفل يركض فاغرًا فاه، الطفل الأخير في الصورة لم يكن يلتفت إلى الكاميرا، لكن خلفه كان الجحيم الذي خلفته قنابل النابالم، كان الأطفال الخمسة ينتمون إلى عائلة واحدة.
حين تفتح الصورة على مداها البعيد سوف تشاهد مصورًا آخر يبدل فيلم الكاميرا الخاص به لذا لم يحالفه الحظ في التقاط هذه الصورة، بعد التقاط الصور قام «أوت» بدوره الإنساني في المساعدة بنقل الأطفال إلى المستشفى، حيث لُفَّتْ الطفلةُ العاريةُ، عرفنا أن اسمها بعد ذلك «فان ثي كيم فيك» في معطف أحد الجنود الواقي من المطر، وتناولت الماء ثم نقلت إلى المستشفى وكان أوت معها، بعد أن فقدت وعيها، قال الأطباء إن حالتها مستعصية على العلاج.
أما الأطفال الآخرون في الصورة فهم: كيم فوك التي تبدو الحروق على ذراعها اليسرى، وخلفها طفل يمسك بيد فتاة، وفي الخلف بعض الجنود والمصورين.
عاد أوت إلى معمل تحميض الصور في مكتب «أسوشيتدبرس» في سايجون من أجل تحميض أفلام كوداك التي كانت لديه، وبعد أن ظلت بعض الصور في المواد الكيميائية تم تعليقها في حجرة صغيرة لكي تجف، بعد ذلك شاهد هورست فاس مدير مكتب «أسوشيتدبرس» في سايغون الصور، وتوقف عند هذه الصور معلقًا: «أظن أن لدينا جائزة بوليتزر جديدة».
لكن مديره في المكتب الرئيسي للوكالة في نيويورك قال هذه الصورة غير صالحة للنشر، لن ننشرها، فالقاعدة المعروفة في العالم كله في أغلب وسائل الإعلام عدم نشر صور عُريٍ أماميٍّ، دار جدل طويل بينهما انتهى إلى نشر الصورة كاملة مع عدم قص صورة الطفلة ونشرها بمفردها أو إظهارها عن قرب.
بدأت الوكالة إرسال الصورة لوسائل الإعلام المشتركة لديها من خلال كابلات التليغراف البحرية والأرضية، تحت عنوان «إرهاب الحرب»، وهنا توقف العالم وهو يشاهد المأساة المجسدة في صورة، أو الصورة التي تُجسد المأساة، وراح يطالب بوجوب إيقاف هذه الحرب اللعينة التي يذهب الأطفال ضحايا لها.
فازت الصورة بجائزة بوليتزر فئة الخبر العاجل.
لم يعد الأمر إلى طبيعته بعد ذلك بالنسبة للسلطة خاصة في أمريكا في التقاط الصور بحُرية تامة، فالمراسل العسكري وضعت له بعد ذلك شروط تضعه تحت السيطرة، لذا لم تأت صور التعذيب من قبل الجنود الأمريكيين في سجن أبو غريب في العراق من مراسلين عسكريين، أذكر أن الصحفي الشهير سيمور هيرش الذي نشر الصور في النيويوركر أخبرني في لقاء في الجامعة الأمريكية في القاهرة (نشرته في جريدة المصري اليوم عام 2007) أن امرأة مجهولة أرسلت له هذه الصور فقام بنشرها، ليدينَ العالمُ «بوش» ونظامه في حربه على العراق.. وهنا أتذكر التعبير الإنجليزي «استخدم الصورة فإنها تعادل ألف كلمة».. الحظ والتوقيت والفرصة حالفوا «نيك أوت» في صورته، والموهبة والمصداقية وجرأة النشر أوصلت صور أبو غريب لسيمور هيرش.. هكذا الحياة تحتاج بضعة أشياء إلى جانب الكفاح.