كتاب الراية

قضايا وأحداث.. رسالة صادقة برفض العنصرية من داخل الأمة التركية

بادئ ذي بدء، دعونا نُذكِّر هنا مرة أخرى بما ذَكرناه من قبل: إن كراهية الأجانب نفسها هي أيديولوجية غريبة على تركيا وثقافتها وتاريخها وإيمانها ونسيجها الاجتماعي. ولعل خير شاهد على ذلك هو تراث تلك الأرض وحضارتها التي ترجع إلى ألف عام في هذه المناطق. وبعيدًا عن جميع أنواع تمجيد الوطن والفخر التاريخي والثقافي، فإن التنوع الاجتماعي والثقافي الذي تم الحفاظ عليه في تركيا طيلة ألف عام يكشف بوضوح أن المفهوم الأكثر غرابة على هذه الأراضي هو مصطلح «الغُربة» .

والحقيقة أن خطاب كراهية الأجانب، الذي يبدو أنه ازداد مؤخرًا، قد ظهر نتيجة تحريض من أقلية صغيرة ومنظمة في تركيا، معتمدة على وسائل الإعلام وأنشطتها الإعلامية المنظمة. فالشعب التركي في الحقيقة لم يتخذ ولن يتخذ موقفًا عدائيًّا تجاه الأجانب. وفي كل مرة تظهر فيها هذه المجموعة المنظمة، ولو كانت منتمية لحزب ما في العلن، فإنها في الحقيقة تتلقّى ردود فعل جدية من قطاعات واسعة من أوساط الشعب المتنوعة.

وهنا لن أقول ولا يمكنني أن أدّعي أن هؤلاء لا يستطيعون أن يخرجوا في الأماكن العامة إلى الجمهور، بل إنهم موجودون في كل مكان لأنهم من بني جلدتنا. ولكنهم ما زالوا لا يأبهون لردود فعل الشعب التركي العاقل، ويتعاملون معها بوقاحة لا تُصدق ويستمرون في طريقهم دون اهتمام. والأمثلة على ردود فعل الشعب تجاه هؤلاء العنصريين أكثر بكثير من الهجمات التي يوجهونها إلى الأجانب. ومن ناحية أخرى هناك ضرورة مُلحَّة لدراسة الأسباب التي تجعل خطابات «كراهية الأجانب» أكثر انتشارًا وظهورًا مقابل ردود فعل الشعب التركي على العنصريين.

وهناك جانب آخر مهم في هذه المسألة، وهو «العنصريون» المنتمون إلى العالم العربي والذين يتعاونون مع أصحاب التصريحات العنصرية في تركيا، ويلهثون حول مثل تلك التصريحات للعمل على زيادة الإثارة وتفجير الأحداث ونشر الأخبار انتشار النار في الهشيم. وكما أن الذين يرتكبون العنصرية باسم تركيا لا علاقة لهم بتركيا، فإن الذين يرتكبون العنصرية باسم العرب لا علاقة لهم بالعروبة. فالعنصريون من الجانبين منسجمون ومتفاهمون بشكل جيد للغاية مع بعضهم بعضًا، ويحاولون معًا تخريب الأُخوَّة التركية العربية. وبهذه الجهود الخبيثة يسعون لإضعاف تركيا القوية، ويضعون العقبات ويحفرون الخنادق في طريق تأسيس عالم عربي أو عالم إسلامي قوي.

وانطلاقًا من الحاجة إلى الإعلان بصوت أعلى أن الشعب التركي لا يقبل هذه العنصرية، وأن الأتراك ليسوا عنصريين أبدًا، وأنهم لا يمكن أن يكونوا قد أصبحوا بهذا الشكل العنصري في الآونة الأخيرة، سعى مجموعة من الصحفيين والكُتَّاب والأكاديميين وأنا من بينهم، إلى التحدث علنًا للجمهور الداخلي والخارجي وإصدار مَرئية (فيديو) مشتركة حول الأفعال والخطابات التي تحولت إلى جرائم كراهية علنية في تركيا، خاصة ضد العرب. وسأعرض عليك مضمون الرسالة التي قرأ كل واحد من المشاركين جملة واحدة منها:

«تحية من الأمة التركية لجميع المسلمين في جميع أنحاء العالم. نرجو منكم الاستماع إلى هذه الدعوة، نحن هنا لنصرخ بقوة أن الشعب التركي برمته بريء من العنصرية، فالأتراك لم يكونوا ولن يكونوا عنصريين أبدًا: فالمؤمنون جسد واحد، وهناك من يريد تقسيم هذا الجسد وتمزيقه. ومن المعلوم أن في كل مجتمع أشخاصًا طيبين وكذلك هناك أشخاص سيئون. وفي الآونة الأخيرة حاول بعض الأفراد والتيارات -الذين يزعمون أنهم أتراك- زرع بذور العنصرية في بلدنا. ونحن ندرك هذا الخطر ولهذا شعرنا كصحفيين أتراك بالحاجة إلى توجيه هذه الدعوة وهذا النداء. إنهم وكما فعلوا قبل 100 عام يحاولون زرع الفتنة والفُرقة بين المسلمين اليوم. ونحن الأتراك أمة معروفة على مر التاريخ بكرم ضيافتها واحتضانها لإخوانها المسلمين. وأولئك الذين يمارسون العنصرية باسم الهوية التركية هم في الحقيقة لا علاقة لهم بقيم الأمة التركية. وكذلك هذه الهجمات العنصرية التي تشنها أقلية لا تمثل الأمة التركية بأي شكل من الأشكال. فلا يقبل أيٌّ منا تلك العنصرية المُحرَّمة في الإسلام. ونحن جميعًا شعب واحد: الأتراك والأكراد والعرب والجورجيون وغيرهم، وكلنا جزءٌ من نفس الأمة. ورغم اختلاف ألوان بشرتنا فإن قلوبنا لا تعرف الألوان. والعنصرية بلا شك مرضٌ يعيق التقدم البشري. ونحن -المسلمين- إخوة وأخوات من قديم الأزل وسنظل إلى الأبد وسنبقى أمة واحدة» .

ووجدت هذه الرسالة صداها في العالم العربي، حيث اعتبرت صوتًا قويًّا جدًّا في وجه الحملات الأخيرة الموجَّهة إلى تركيا. وكل مَن شاهد الفيديو تذكر مرة أخرى أن تركيا دولةً وأمةً مدت ذراعيها للشعوب المُضطهدة ودعمتها لسنوات طويلة، ولذا فإنها لا تستحق هذه النظرة الظالمة. وعلى وسائل التواصل الاجتماعي العربية وصل هذا الفيديو إلى ملايين المشاهدين وكان له تأثير إيجابي كبير.

ومع ذلك فقد كشفت ردود فعل الدوائر العنصرية على الفيديو نفسها، وأظهرت أن الرسالة قد حققت أهدافها بالضبط في هذا الجانب أيضًا. ففي الواقع كانت ردود فعل هؤلاء مبينة كيف أن هذه الرسالة تمس نقطةً حساسةً بالنسبة لهم، والحقيقة أن الذي كان يزعجهم في هذه الرسالة هو أنها تحاول استعادة صورة الأمة التركية النبيلة الشريفة الشهمة صاحبة التاريخ البطولي حامية المظلومين والواقفة في وجه الظالمين. فهؤلاء الأشخاص لا يقبلون ذلك النوع من التوجهات.

وقد وصفت بعض ردود الأفعال هذه الرسالة بأنها «عشق للعروبة» . وهذا هو قمة الهُراء المُطلق والتقدير العاري عن الصحة. كما يكشف عن عدم فهم القوانين واللوائح التي تحظر نشر الكراهية والتحريض. فلماذا يعتبر حب الإنسان التركي أو غيره للعرب أو لأي شعب آخر عيبًا؟ وهل من الضروري أن تكون هذه النظرة إلى العرب أو إلى أي شعب آخر عيبًا؟ بالطبع الجواب هو لا. فمشاعر الألفة والمودة نحو الجميع أمر بسيط، ونحن بهذه العبارات البسيطة التي لا تحمل أي تمجيد للعرب أو إبراز تفوقهم على غيرهم.

أكاديمي وسياسي وكاتب تركي

@yaktay

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X