كتاب الراية

بيني وبينك.. شِعر المُقاوَمة تجربةً ووجودًا

تعرّض مصطلح (شعر المقاومة) إلى تحوّلاتٍ في مفهومه، جَعَلَتْ منه مصطلحًا مُحتاجًا أشدّ ما تكون الحاجة إلى تأصيله، وتوسيطه… أرى أنّ هذا المصطلح مُوغِلٌ في التّجرِبة الشّعريّة، إيغال الشّعر في أعماق النّفس البشريّة ذاتها… عندما تغنّى أوّل شاعر بالثّورة ضدّ سارقي حقوقِه أيًّا كان عنوان تلك الحقوق، بَيدَ أنّه يجب التّوقّف هنا للاتّفاق فيما إذا كنّا نقصد المصطلح في دلالته اللّفظيّة أم نقصده في دلالته المضمونيّة، فإنْ ذهبتَ إلى اللّفظ على هذه الشّاكلة فأنا مع الّذين يقولون بجِدّته، ولكنّني أرى – على مستوى المضمون – أنّه تعتّق منذ محاولات الشّعر الأولى الّتي هَلْهَلَها المُهَلْهِل!
لقد ارتبطَ هذا النّوع من الشّعر بالهمّ الوطنيّ في الدّرجة الأولى، إذ إنّه عُنِيَ بالتّحرّر من سلطة الأجنبيّ، وإذا كانت سلطة الأجنبيّ الّتي تُوقِعُ الظّلم على أفرادٍ أو جماعاتٍ، تُجابَهُ بالمقاومة من أحرار هؤلاء الأفراد والجماعات، فإنّ هذا الوصف المبدئيّ ليس خاصًّا بزمانٍ أو مكانٍ مُحَدَّدَيْنِ دون سواهما؛ فحيثما وُجِدَ الاحتلال كانت المقاومة، وإذا صحّت هذه الفرضيّة بالبَدَهيّة، فأنَّى لنا أن ندّعي أنّ هذا التّوصيف الحديث في لفظه، العتيق في مضمونه خاصٌّ بعصرنا هذا دون أن يمتدّ إلى كلّ عصرٍ ومِصْر ؟!
وعليه، فليس من المنطق أن نسحب الحُكمَ على المناخ السّياسيّ في عصرٍ ما على هذا النّوع من الشّعر؛ إذ ليس بالضّرورة أن يسوء شعرُ المقاومة إذا ساءت الأحوال السّياسيّة، أو أن يتقدّم إذا هي تقدّمت، فإنّ المتتبّع له يُدرِكَ أنّ ارتباطه بالمناخ السّياسيّ السّائد ارتباط هُلاميّ ليس له سمةٌ ثابتة؛ فحين كانت الانتصارات السّياسيّة ترفع -أحيانًا- وتيرة هذا النّوع من الشّعر، كانت الانكسارات السّياسيّة تفعل الشّيء ذاته، وعليه فإنّه يجب أن نكون حذرين في إطلاق أحكامنا على شعر المقاومة، ونحن نربطه بالمناخ السّياسيّ السّائد.
إنّ القصيدة المُقاوِمة استندت منذُ تشكّلها الأوّل إلى قدرة مُبدِعها على إعادة صياغة تجربة ناضجةٍ، ووعيٍ متقدّم، بمفردات فنّيّة قادرة على الارتقاء بالوِجدان لتكون بمستوى الفعل المُوازي لها أو الّذي يسبقه أحيانًا. وبينَ فنّيّة عاليةٍ ضروريّة للنّهوض بروح القصيدة ولغةٍ محفّزةٍ تملك القدرة على التّوجيه والاستثارة تقع هذه القصيدة المُقاوِمة في فخّ توازنٍ ليس سهلًا؛ فهو إمّا أن يدفع الشّاعر إلى التّرميز الّذي يهوِي بالقصيدة في بئر الغموض، وإمّا أن يدفعه إلى المباشرة والوضوح الّذي يجعل القصيدة تتردّى في بحر التّسطيح، ومن هنا تبرز الشّاعريّة الفذّة الّتي تصوغ -من موضوعٍ مُباشرٍ كالمقاومة- شعرًا خالدًا يحمل في داخله أسباب بقائه واستمراره، لا موته واندثاره.
وإذن فإنّ شعر المقاومة هو صرخة الشّعراء في وجه قوى الاحتلال والاستبداد والظّلم، صرخةٌ وَقُودها مشاعرُ متّقدة تستنهض الهِمَم لتحمي الذّات من التّبعيّة والاستلاب.

AymanOtoom@

[email protected]

 

 

العلامات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X