الحريق يلتهم ضفائر الوطن
بقلم/ بابكر عيسى أحمد:
سنحتاجُ إلى مُحيطٍ من الأحْبار حتى نحكيَ للعالم حجمَ المأساةِ التي يعيشُها السودانُ منذُ الخامسَ عشرَ من أبريل الماضي.. تتناسلُ الأحداثُ، وتبقَى المرارةُ والحزنُ والأسى عالقةً في حلوق ووجوه الملايين الذين عاشوا وما زالوا يعيشون المحنةَ التي ألمّت بالوطنِ والتي باغتت الجميعَ دونَ سابقِ إنذارٍ.. الذين داهمَهم الموتُ خرجوا من ديارِهم وتركُوا كلَّ شيءٍ خلفهم حتَّى أغلى ما اكتنزوه طَوال مسيرة عمرِهم، فلا النساء لحقنَ بأخذ حُليهنَّ الذهبية، ولا الرجال عثروا على سيوفِهم المُغمدة في جفائرها، المحنة باغتت الجميعَ بلا مقدّمات ولا تهيئة نفسيّة لاحتمالات الآتي.
السودان وطنٌ مسالمٌ وأهله طيّبون وشجعان وصابرون، يحبّون الحياة والشعر والأدب، وتطربُهم الأغاني والألحان والكلمات الرقيقة والأحضان الدافئة، يتمنَّون الخير لكل الشعوب، ويتعايشون مع الأمم المحبة للعدالة والسلام والحرية، وأينما كانوا يزرعون الأزهار، ويوزعون الابتسامات، وطيب الكَلِم أينما حلّوا في حِلّهم وتَرحالهم.
المحنةُ والكارثةُ والمأساة التي أطاحت برقاب الجميع تركت ندوبًا غائرة في عقول وقلوب الملايين ولن يغفر رجال اليوم وأطفال الغد لكل الذين تسبّبوا في هذه المحنة الكارثيَّة بتفكيرهم الغبائي وألاعيبهم السياسية القذرةِ.
كثيرونَ عبَروا الحدود ومارسُوا الغزوَ والمُمارساتِ الدنيئةَ، وخطّطوا المُؤامراتِ والمكائد الصَّغيرة والكبيرة حتى يكسروا إرادةَ هذا العملاق الشامخ مثل أشجار «التبلدي» في غرب السّودان، وعادوا مُنكسرين وخائبين حتَّى تطهّرت منهم الأرض العزيزة ورفرف علم الاستقلال، غير أنَّ الأحزاب التقليدية والعقائدية لم تبرح الساحة، ومنذ الاستقلال ظلوا يمارسون تطلّعاتهم الصغيرة ومكائدهم التآمريَّة لإشباع نهم السلطة وسطوة التسيّد والصراع على المقاعد السياسيَّة.
لم يستفدْ ساستُنا من التنوّع والثراء الذي تتمتّعُ به الأُمة، وعوضَ أن يشكل هذا التنوع شجرةً ظليلة نتفيّؤُها من هجير الصيف وزمهرير الشتاء حوّلوه إلى محرقة تطحن الوطن بلا رحمة، وأصبح التنوع والتباين وباءً أصابنا بالحقد والكراهية، عوضًا عن أن يكون رباطًا يزيّن جيد الوطن بالحب والألفة والمحبّة والتعايش السلمي الذي يشكل قاطرةً للوطن نحو التجانس واستثمار أروع ما في الإنسان من طيبة وشهامة وكرم.
رغم كل ما حدث ويحدث من حماقات ما زلنا نعيشُها بمرارة، فإن الحقد والكراهية وعدم القبول بالآخر طفحت فوق سطح حياتنا، وحوَّلتنا إلى مخلوقات كريهة تنفر من بعضها بعضًا، وتحول الوطن إلى مَسلخ نتنِ الرائحة بسبب هذه الحرب العبثية اللعينة، التي دمَّرت كل شيء وحوَّلت عاصمة الوطن إلى محرقة شرَّدت أهلها وبعثرت أُسرَها وناسَها عبر الحدود وفي الأصقاع والأرياف والمدن البعيدة. حدَّثني أكثر من مرةٍ عبر الهاتف وصوتُه مسكونٌ بالقلق والخوف والريبة من الأحداث الجارية في شمال كردفان ذلك الإقليم الذي عُرف بالتجانس والتعايش والمحبة كما عُرف بالجسارة والقوة والحنكة في فنون القتال حتى أصبح «الهجّانة» من أقوى تروس الوطن صلابةً في ميادين القتالِ.. قال لي: الشهور تتناسل، ونحن محرومون من الماء والكهرباء والدواء، وحتى مدارسنا تحوَّلت إلى مأوى للاجئين والنازحين داخل وطنهم يعانون الأمراض والفاقة ونقص الغذاء وندرة الأطباء والمعالجين.
لن نعيدَ السؤال عمن أطلق الرصاصة الأولى ومن الذي أشعل الحريق في ضفائر الوطن، حتى يتمدد ليغطّي كافة الأرجاء، وتكثر الحكايات عن المآسي والمحن التي عاشَها الشعب بمختلف أطيافه، ومازال هناك من يزيدون النار اشتعالًا لتقضي على ما تبقى من الزرع والضرع، والصراعُ ما زال مستمرًا بين القوات المسلحة السودانية وميليشيا الدعم السريع المتمردة – حَسَب التوصيف الرسمي- وسط معزوفات متناقضة في الوسائط الاجتماعية لتخوين القوى السياسية والمدنية وممارسة لعبة قتل الشخصية بمفردات هابطة ومقزّزة. حدثني الأخ الصديق الحاج الوقيع عن الطرق المُغلقة التي تربط مدينة الأبيض (عروس الرمال) بالخوي والنهود والفولة وأبو زبد ومن الرهد حتى كوستي، مرورًا بتندلتي وأم روابه … وأن عمليات النهب والسطو مستمرة، فيما باتت قرى شمال كردفان التي تقع بين هذه المدن تعيش الترقّب والانتظار وسط غياب تام لسلطة الدولة وهيبة القانون. نسأل الله أن تحترق كل الأصابع التي تساهم في إشعال الحرب بعد أن هُجّر الأهالي من ديارهم، ونُهبت ممتلكاتهم واغتُصبت حرائرهم.. لن ينقذنا من هذه المحنة والمأساة سوى توحدنا والبحث عن عقلاء للأُمة.