المنتدى

الغرب والقيم الإنسانية وغزة

بقلم/ د. محمد نشطاوي

 

إن التباينَ في حدّة ردود الفعل الغربية تجاه غزو أوكرانيا والقصف الإسرائيلي لغزة، يدفع إلى اتهام دول الجنوب للبلدان الغربية «المُتحضرة» ب «المعايير المزدوجة» . وهو ما يؤدي إلى إحياء صراع «الغرب ضد البقية» ، وتقويض مصداقية المواقف الجيوسياسية التي تتبناها القوى الغربية.
فالاعتداء الإسرائيلي غير المسبوق وغير المتوازن على غزة، هو مثال مروّع لما يمكن أن يحدث عندما تعتقد الدول أن بإمكانها تجاهل القانون الدولي، وانتهاك حقوق الإنسان مع الإفلات من العقاب. ولو نجح النظام الدولي وحمّل إسرائيل المسؤولية عن جرائمها المثبتة في فلسطين منذ سنة 1948، لكان من الممكن إنقاذ آلاف الأرواح. وبدلًا من ذلك، تركنا مع المزيد من المعاناة والدمار والجرائم المُروعة.
وفي هذا الصدد نشرت صحيفة «الواشنطن بوست» تقريرًا لإيثان ثارور، قال فيه، «إن قصف إسرائيل لغزة يقوض الموقف الأخلاقي بشأن أوكرانيا» ، فقد أظهرت الحربُ الروسية الأوكرانية ما يستطيع الغرب أن يفعله إذا ما طابق أقوال الدعم بالأفعال، إذ رفع فيها الغرب شعارات أخلاقية عن حماية المدنيين ورفض الاحتلال واحترام قوانين الحرب الدولية، في الوقت الذي غابت فيه هذه الشعارات تقريبًا عند الحديث عن إسرائيل وحقها، برغم كل ما ترتكبه من أفعال وحشية ضد المدنيين بحجة الدفاع عن نفسها. «إن الغرب يصنع أبطالًا من الأطفال الذين يلعبون بأسلحة مزيفة ضد الغزاة الروس. ولكن نفس رد الفعل من الأطفال الفلسطينيين يعتبره همجيًا» .
فعلى الرغم من خطاباته حول انتهاكات القانون الدولي من قبل روسيا، وعلى الرغم من دعواته إلى «الدفاع عن الديمقراطية» ، فقد وجد الغرب نفسه معزولًا عن الجنوب العالمي في استراتيجيته القائمة على العزلة والعقوبات والإجراءات الانتقامية ضد موسكو. وبعد أن فوجئ برد الفعل هذا، حاول البعض تشويه سمعة الدول المتردّدة، من خلال رميها في المعسكر «غير الديمقراطي» . لكن كان من الصعب شرعنة هذا الخطاب بعد أن رفضت دول مثل جنوب إفريقيا والهند وإندونيسيا والسنغال والبرازيل الانخراط في حملة صليبية جديدة. إلا أن الحرب ضد غزة أظهرت زيف ادعاءات الغرب.
لقد أماطت الحرب الإسرائيلية ضد غزة اللثام عن المعايير الأخلاقية التي يتبناها الغرب خارج محيطه الجغرافي وخارج إسرائيل، فإذا كان هناك معيار واحد يفرض نفسه بلا شك في إقامة العلاقات، في الماضي والحاضر، بين الغرب والآخرين، فهو مسألة التفوق التي أسقطها الغرب بعنف في جميع أنحاء العالم خلال قرون طويلة.
فإذا كان المسؤولون الأمريكيون والغربيون قد اعتبروا الغزو الروسي لأوكرانيا انتهاكًا للقانون الدولي وخرقًا لميثاق الأمم المتحدة وتحديًا للنظام العالمي المبني على القواعد، فإنهم مقابل ذلك أطلقوا العنان لإسرائيل لتفعل ما تشاء ضد الفلسطينيين العزل بما فيه قصف المستشفيات ومنع الماء والغذاء والوقود، بل أكثر من ذلك شجعوها وحرضوها على القيام بذلك، حتى وإن كان ذلك منافيًا لكل ما تعاقدوا عليه من مبادئ قانونية وإنسانية وأخلاقية. لا سيما، وأنه من الصعب التوفيق بين ترويج الولايات المتحدة للتقاليد والمبادئ والأعراف الدولية وقوانين الحرب للدفاع عن أوكرانيا أمام روسيا وتجاهلها بشكل متعجرف في غزة.
لقد أبانت مجريات الأحداث كيف سارع رؤساء وقادة الحكومات الغربية، وهم يحجون اليوم الواحد تلو الآخر إلى الأراضي المحتلة، إلى إدانة هجمات حماس بأشد العبارات المُمكنة، ويصفونها كجرائم إرهابية تستدعي ملاحقة مرتكبيها، وتلزم الدولة العبرية بالدفاع عن نفسها.
أما حين أطلقت إسرائيل يدها قتلًا وتدميرًا وإبادة في غزة بآلاف الضحايا من الأطفال والنساء والرجال، فإنهم امتنعوا عن إدانة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها آلة القتل الإسرائيلية المدفوعة بنزوع انتقامي شرير وبشهوة تدميرية لم تنقطع منذ اليوم التالي لهجمات حماس.
لقد سقطت الحكومات الديمقراطية في الغرب مجددًا في اختبار مصداقية القيم المُعلنة، واتساق معايير السياسات المُطبقة فيما خص الحرب على غزة، مثلما سقطت إبان الإبادة الصربية للمسلمين بسربرينيتشا، أمام القوات الأممية الهولندية «الغربية» ، بل وبتواطؤ معها.
ولعل أصل كل ذلك يكمن في رفض اعتبار العالم غير الغربي متساويًا، وحقوق شعوب الجنوب مشروعة، والتطلعات إلى قواعد عالمية تنطبق على الجميع، في تناقض مع رسالة التنوير التي يدعي الغرب أنه من حماتها والمُدافعين عنها.
لقد تراجع الوزن النسبي للغرب، ولكن على الخصوص حقه في اعتبار الخير خيرًا والشر شرًا، وأن يضع قواعد اللعبة الدولية، وأن يقرر ما هو عادل وأن يقرر ما هو الحق وما هو الباطل، كما كتب آلان غريش، مدير جريدة لوريان.

[email protected]

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X