المنبر الحر

يا باغِيَ الجَمالِ أقبِل!

بقلم/ د. خلود الظايط محمد:

للهِ دَرُّ كل لحظة أكحِّل فيها ناظريّ بإصابة رائعةٍ أدبية، فأشعر بِرعْدَة دهشة، تَتَمَشّى فِي أَعْضَائِي. كيف لا وبليغ القول -بمَنثُورِه وَمَنظومِه- يودِعُ فِي جَنَبَاتِ النفس غبطةً جَمّة! فَإذا بها قد اعشَوشَبَ جانبُها، وَعذُبَت مَوارِدُها، وطَابَت نَسائِمُها، واسْتحَالَت رَوضَة تَعتَنِقُ أَغْصَانُها وتَشْتَجِرُ أَفْنانُها بَعد أَن كانَت صَعِيدًا جُرُزًا. إِنّمَا اللُّغَة العربية قَائِمة وخَالِدة ببَديعِ نَسْقِها، وصَفَاءِ رونقِها وانسِجامِها كَالماءِ الجَاري فِي اطّرادِه يُمسِكُ بعضُهُ بِزِمَامِ بَعض.

لَا رَيْب بِأنَّ من جَهلَ قوانين اللُّغة أَبهَمَ أغْراضَها وشَوَّهَ جَمالَها، وإِن جَنّسَ ورَصّعَ وسجّع وقابَل، وافْتنّ فِي الِإتْيانِ بالكلماتِ والتراكِيب، ولَكن يَبْقَى فَضلُ الأُدَباءِ عَلى اللُّغة في سيرورتِها وذُيوعِها، بتَمهِيد سُبُلِها وتَعبِيدِ طُرُقِها ونَظْمِ لَآلئِها لِتتَجلّى في الشّكل الأعلَق بالنُّفوس والألصَق بالقُلوب، فَضلًا يُجاوزُ فَضلَ اللُّغَويين عَليها. لَقَد عَربَد حُبُّ الْأَدَبِ فِي نَفْسِي حين شهدتُ لساني فصيحًا يُرسلُ الكَلِمَةَ إِثرَ الكَلِمَة، وَيرْمي بِالحُججِ رَميَ السِّهامِ المُسوّمة التي تُصيبُ الأَلبابَ فَلا تُخْطِئُها، فَيسْتَدفع بِها أي جَواب، مُنطَلِقًا بِإقْدام إِلى سَبِيلِه وَمَأتَاه، فيُنسي السابِق ويُشَوّق إلى اللاحِق، حَتّى يَرضَخ غَريمُهُ كالسّامِعِ الطّرُوب، ويبَخبِخُ لَهُ أَعدَى أعْدَائه. انْطَلقَ اللِّسانُ يُفضِي بِأغْراضِ الفؤادِ جَميعِها، ويُوافِي رَغبَتِي في الإفْصاحِ عنْ كلِّ المَعانِي التّي لطَالَما كانَت تَعْتَلجُ فِي خَلَجَاتِ صَدْرِي ويَتَكاءدُني الإفصَاح عَنها. أَدْركتُ حِينها كَم رَقّ حِجابُ اللّفظِ دُونَ المَعنَى، وكَم اسْتَرخَت عُرى العُقَدِ بين إبِطَانِ المعنى والإتْيان بهِ لفْظًا؛ فَما كانَ الأدَبُ عَلى مَرِّ الزَمان إِلا مِحْراث القُلوب والعُقول، ونتاج ما تفجَّر مِن صُدوعِ الأفْئِدة الكَلِيمة.

[email protected]

العلامات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X