كتاب الراية

 قضايا وأحداث.. الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية في الثقافة التركية

مرت علينا منذ شهر تقريبًا الذكرى الـ 40 لوفاة واحد من أكثر المفكرين والمثقفين تأثيرًا في تركيا الحديثة البروفيسور أرول غونغور الذي كان رئيسًا لجامعة سلجوق في مدينة قونيا، والتي احتفلت بذكراه وعقدت لقاءات ثقافية نقاشية شارك فيها عدد من المفكرين. كما احتفل قسم علم الاجتماع في جامعة حاجي بيرم وجامعة يلدرم بايزيد في أنقرة، بذكراه أيضًا وعقد حلقات نقاش عرضت مساهماته في الفكر والثقافة وعلم الاجتماع التركي. وقد تناولتُ في مشاركتي خلال الاحتفال بغونغور باعتباره عالم الاجتماع والمفكر المثقف. ولا أُخفي أنني منذ 7 أكتوبر/‏تشرين الأول، قد سِرت في مقالاتي الصحفية وفي جميع أعمالي الأكاديمية والفكرية في ظل غزة وفلسطين؛ لذلك أردت مناقشة أفكار أرول غونغور مع أبعاد هذه القضية.

غونغور مفكر مثقف لم ينقطع أبدًا عن المجتمع الذي ولد فيه، لكنه لم يقتصر على مناهج التفكير التي يتبناها ذلك المجتمع، بل قدَّم مساهمات حقيقية له. فهو يُميِّز بوضوح بين الثقافة والحضارة، ويُعارض نظرية المبادئ والقيم التي يجب أن نتخلى عنها ونحميها في التغييرات الثقافية ويوجِّه لها نقدًا شديدًا. ورغم أنه جرَّاء تلك الانتقادات للمجتمع الذي ينتمي إليه قد تعرَّض لمضايقات خطيرة، فلا يمكننا القول بأنه خارج السرب. وكذلك فإن كتابه الذي يضم هذه الانتقادات لم يصدر عن دار النشر التي تنشر كتبه لفترة طويلة، ولكنه نُشِر فيما بعد.

وجاء الفصل الأخير من كتاب غونغور «القومية والثقافة التركية» بعنوان «العالم الذي انقطعنا عنه». وتحت هذا الفصل مقالتان بعنوان «الشرق الأوسط وتركيا» و»نظرة على الشرق الأوسط من تركيا». وفيهما يشرح غونغور بوضوح شديد أن الحدث الذي شهدناه منذ الحرب العالمية الأولى هو «تمزق» له أسوأ المعاني والدلالات. فما الذي يهمنا اليوم في فلسطين وقد تخلى العرب عن الدولة العثمانية في الماضي؟! الحقيقة أن من يحاولون فصلنا عن الشرق الأوسط لا يخدمون سوى الإمبريالية التي كانت معادية للوجود القومي التركي منذ البداية.

وبشكل رئيسي نشأ مصطلح الشرق الأوسط مصطلحًا سياسيًّا بعد سقوط الإمبراطورية التركية؛ حيث كانت المنطقة كلها جزءًا منها، باستثناء إيران التي تمثل أولًا وقبل كل شيء كتلة من الدول الإسلامية، وتشكل تركيا العنصر الرئيسي في تلك الكتلة. وبالتالي سيُحْيِي هذا الوصف ذكرى مهمة جدًّا في وعي التاريخ والهوية. وقد اجتهد غونغور في إيقاظ هذا الوعي من خلال لفت الانتباه إلى جميع العمليات التي تعرض لها المسلمون بعد الحرب العالمية الأولى. وبيَّن أن الذين يحاولون زرع مشاعر عداوة العرب في القومية التركية أو مشاعر معادية لتركيا في القومية العربية- لا علاقة لهم بالعروبة أو الأتراك. وهكذا تكتسب كلمات غونغور معاني أكبر نتيجة للمكان والزاوية والتقاليد التي ينطلق منها ويستند إليها. دعونا نقرأ كلامه:

«في الوقت الحالي، من الضروري إقامة جسور التواصل الثقافي وزيادتها بين تركيا وبقية دول الشرق الأوسط. ولا ننسى أن بذور الخلافات التي زرعتها الدول الغربية في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى أثرت بشكل كبير علينا جميعًا؛ فعندما يفكر الأتراك في العرب، فإن الأجيال الجديدة من الأتراك تفكر دائمًا في القبائل البدوية التي سارت خلف بريطانيا وضربت الجيوش التركية من الخلف. وعندما يتحدث العرب عن تركيا، فإنهم يتذكرون ما فعله جمال باشا في سوريا. وبالطبع كلا التصورين خطأ، فقد اخترعهما البريطانيون لإشعال العداوة بين الجانبين. فإذا أردنا للعرب التخلص من هذا المفهوم الخاطئ، فعلينا أولًا أن نمحو كل آثار معاداة العرب التي يحاول عملاء الغرب في بلادنا إثباتها بشكل منهجي. ومن الضروري ألَّا ننسى أن الإسلاموفوبيا هي أصل الدعاية المعادية للعرب. وهناك جهود لتأليب الكتلتين العظيمتين في العالم الإسلامي، واللتين تعيشان جنبًا إلى جنب ضد بعضهما البعض، وبالتالي استمرار تبعية كلٍّ منهما للغرب. إن العلاقات العلمية والثقافية والتقنية بين دول الشرق الأوسط ستساعدنا جميعًا على التمييز بين الأصدقاء والأعداء. وينبغي اعتبار مبادرة تركيا في هذا المجال متطلَّبًا لسياسة خارجية سليمة».

فهل سنكون ذيل السوق الأوروبية المشتركة أم رأس الشرق الأوسط؟!

هل سنكون مجرَّد ناقلين ومستهلكين لحضارة معادية لنا، أم سنكون رواد حضارتنا الخاصة؟!

 

 

أكاديمي وسياسي وكاتب تركي

 

@yaktay

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X