الحرب الإسرائيلية على غزة.. حرب دينية (2)
بقلم/ د. محمد نشطاوي:
إن الانقسامات الحادة للغاية، التي لا يمكن التغلب عليها من الناحية الأيديولوجية في كثير من الأحيان، حول المسائل الأساسية المُتعلقة بطبيعة الدولة اليهودية، كانت دائمًا هي السمة المميزة للحركة الصهيونية منذ بداياتها وحتى الآن. ولكن لم تتعرض الهيمنة الأيديولوجية والسياسية للصهيونية العلمانية للخطر إلا بعد حرب الأيام الستة، إذ وجدت الحركة القومية الدينية نفسها في وضع يمكّنها من المطالبة بدور قيادي في المجتمع الإسرائيلي.
وهناك أسباب كثيرة تفسر ذلك، مثل الدافع القوي والأيديولوجي للغاية، والتفاني المطلق لشباب هذه الحركة، لاسيما إن روحه الرائدة واستيلاءه على رموز الحركة الرائدة من العصور التي سبقت قيام الدولة أكسبته الاحترام العميق لدى العديد من اليهود غير المتدينين، الذين كان بعضهم جزءًا من الحركة الاشتراكية العلمانية، واليمين غير الديني الذي أصبح حليفه السياسي.
وكانت نتيجة كل ذلك أن التفسير الديني للوجود اليهودي في أرض إسرائيل وللحرب العربية الإسرائيلية، وعلى وجه الخصوص الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، اكتسب شرعية غير مسبوقة. وقد تعززت هذه الشرعية بعد حرب 1973 حتى مع الهزيمة. ونظرًا لفشل القيادة التاريخية لحركة العمل، فقد أدت هذه الحرب في غضون سنوات قليلة إلى نهاية هيمنتها على المجتمع الإسرائيلي، سياسيًا وأيديولوجيًا.
وبعد حرب 1973، تم إنشاء «غوش إيمونيم» أو «كتلة الإيمان»، وتطلق على نفسها «حركة التجديد الصهيوني» وهي حركة كانت -ولا تزال- تهدف إلى الاستيلاء على كافة الأراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط من خلال سياسة استعمارية عدوانية. ثم ظهرت المستوطنات اليهودية في جميع أنحاء فلسطين أو ما يسميه المتطرفون اليهود بالسامرة ويهودا.
لقد كان تأثير غوش إيمونيم السّياسي حاضرًا على امتداد التّاريخ السّياسيّ في إسرائيل؛ فقد كانت لإسرائيل استراتيجية سياسية تعارضت مع كل أشكال التسوية السياسية مع العرب والفلسطينيين، بل حتى اتفاق أوسلو تبين أن أهدافه تتعارض مع فكر وأيديولوجية «غوش إيمونيم» التي كانت أقوى من أهدافه.
وبهذه الطريقة، نفذت دولة إسرائيل بشكل ملموس سياسة واستراتيجية تقومان على أيديولوجية دينية جعلت من أرض إسرائيل أرضًا مقدسة واستعمارها الكامل واجبًا دينيًا أسمى، وحقًا متجذرًا في الموافقة الإلهية لا يمكن إنكاره.
وكانت النتيجة الرئيسة الدائمة لهذا التطور هي التغيير الذي طرأ على الوضع الجيوسياسي للمناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية منذ عام 1967. وكان هذا في الواقع تغييرًا استراتيجيًا، كما أن جميع المستوطنات اليهودية الجديدة تقريبًا التي أقيمت في قلب الضفة الغربية وغزة يسكنها أشخاص متدينون. ومن المؤكد أن ارتباطهم بالأماكن التي يقيمون فيها هو ارتباط ديني، إذ يعتبرون أنهم يقومون بدور المسيح المُخلص، وهم طليعة المجتمع الإسرائيلي الذي أصبح على وشك فقدان شجاعته والإحساس برسالته الحقيقية.
وبالتالي، استطاعت هذه الجماعات الدينية المُتطرفة تحويل وجهات نظر إسرائيل السياسية إلى وجهات نظر دينية. وبالتالي يظل التفسير الديني للصراع حاضرًا بقوة في السياسة الإسرائيلية، ويحتفظ بقدرة قوية على التأثير في المُستقبل، خصوصًا في الارتباط السياسي الذي تتمتع بموجبه الأحزاب الدينية بسلطة سياسية أكبر بكثير من الأهمية النسبية لناخبيها في المجتمع الإسرائيلي.
وقد اكتسب هذا العامل وزنًا كبيرًا في الآونة الأخيرة بسبب ظاهرة جديدة نسبيًا، وهي الميل القوي للجماعات الأرثوذكسية، والأرثوذكسية المتطرفة، إلى تبني تصور يميني متطرف للصراع مع الفلسطينيين. إذ كان هؤلاء الأرثوذكس تقليديًا معادين إلى حد كبير للأيديولوجية الصهيونية ولفكرة إنشاء دولة يهودية. وبمجرد إنشائها، أرادوا جعلها دولة تحكمها «الحلقة» أي دولة دينية. وهم الآن يواجهون القومية المتطرفة للحركة القومية الدينية بشكل رئيس على أرضية مشتركة، وهي تصور الصراع والعداء تجاه الحداثة اليهودية والعلمانية.
وبمرور الوقت، انجرف الرأي القومي الديني على نحو متزايد نحو النظرة الأرثوذكسية للدين، بعيدًا عن الصهاينة العلمانيين الذين ظلوا حلفاء لها حتى أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات. وهكذا تم إنشاء تحالف ديني جديد، يدعم الرؤية المسيحية المُخلصة للصراع، ويزود رأس الحربة النشيط سياسيًا بقاعدة أيديولوجية ضخمة.
إن السؤال الحقيقي الذي يواجه أي محاولة للتوصل إلى فهم مُرضٍ للوضع، ليس معرفة ما إذا كان المجتمع الإسرائيلي يشن حربًا دينية، بل ما إذا كانت الحكومة الإسرائيلية قادرة على فرض إرادتها السياسية على مجموعات صغيرة نسبيًا، تتحدى سلطة الدولة في إسرائيل. فالمشكل الحقيقي لتداعيات السيطرة الدينية للمتطرفين اليهود على عملية صنع القرار وتوجّهاته في إسرائيل، والتي أصبحت أحد عوامل توليد الكراهية والوحشية، لا ترتبط فقط بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بقدر ما تطرح إمكانية الصدام بين الدولة والسلطة الدينية والتهديد الدائم لسلطة الدولة، والذي يبقى احتمالًا حقيقيًا.
ويظهر هذا الصدام بقوة بعد السابع من أكتوبر، حيث شهدنا لأول مرة تطوَّع أكثر من 2000 من اليهود الحريديم القوميين للخدمة عسكريًا في جيش الاحتلال، رغم أن الطائفة اليهودية الحريدية معروف عنها تجنُّب دخول الجيش ورفض الخدمة العسكرية، ما ينذر برغبة دينية متطرفة للسيطرة على الجيش أيديولوجيا.