السودان.. الوطن الرائع
بقلم/ بابكر عيسى أحمد:
يقولُ الرائعُ الراحلُ محمود درويش: «الوطن أن أحتسي قهوة أمي وأن أعود في المساء»، المسافة تباعدت بين الوطن وقهوة الأم.. لم يعد للفلسطينيين وطن يعودون إليه.. ولم يعد لنا نحن أهل السودان وطن نعود إليه بعد أن تبعثرنا في المنافي وفي المدن البعيدة والقريبة، وما يحدث هنا وهناك هو فصل قصير من فصول المؤامرة الكبيرة التي يتعرّض لها السودان على أيدي أطراف دولية وإقليمية وداخلية طامعة ومُتطلعة للاستئثار بثروات السودان وأرضه ومياهه الوفيرة، السطحية منها والجوفية، لزراعة البرسيم وإطعام المخلوقات البشرية الجاهلة والبدائية التي تقصر قامتها عن قامة الشعب السوداني الأبي صاحب الأمجاد والبطولات.
الأحداث تتلاحق والفوضى تطرق الأبواب والميليشيا المُتمرّدة والمُنفلتة تجتاح القرى والمدن، والناس يسكنهم الخوف وعدم اليقين.. وهذه الحالة البائسة تتمدد في كل الأصقاع بلا أفق أن يأتي السلام ويتحقق الاستقرار وتعم العدالة جميع الأرجاء وأن يلتئم شمل القبائل المُتنافرة والمُتنازعة على الأراضي والحواكير والمراعي.. وهذا يمكن أن يتحققَ في إطار مشروع وطني قومي يجمع الأمة باتجاه أفق واحد تتحقق من خلاله كل طموحاتنا المشروعة.
رغم قتامة الواقع، علينا أن نتعلمَ كيف نحب بلادنا وأرضنا وثرواتنا وأن نتركَ وإلى الأبد الكراهية والعنصرية والفوقية، فكلنا أبناء آدم، وآدم من تراب، وحب التراب هو حب للوطن الذي علينا أن نرضعه لأطفالنا الآن وغدًا وفي المُستقبل، فالتراب هو الذي نشأنا منه وإليه نعود، والتراب هو الوطن.
حكايات كثيرة ستُروى في المُستقبل القريب، تروي المُعاناة والتلاحم والتعاطف الذي انعكس في مسارات عديدة، وإن التضامن والطيبة والمحبة التي تربط بين أبناء الشعب السوداني ستبقى هي ذلك الخيط الذي يربطهم جميعًا رغم تباعد جغرافيتهم البعيدة وتباين مناطقهم وتعدّد سحناتهم وأشكالهم بقدر ما تتعدد قبائلهم، وهذا التعدد يجب أن يُشكلَ إضافة وثراءً وليس تفرقةً وتباعدًا، وهذا ما تحقق ويتحقق بين مُختلف الأمم والشعوب.
الناظر إلى الخريطة السياسية الدولية بكل أجناسها وشعوبها يجدها تُشكّل نسيجًا واحدًا حقق التقدم والنهضة في أكثر من مكان، وعلى أساس هذا التفرّد والتنوّع والثراء تتحقق النهضة وتعلو رايات البناء والتنمية ويعمّ الرخاء كل الأرجاء.
مُصيبتنا في السودان هي أننا مشغولون بالسياسة أكثر مما يجب ومُتطلعون إلى السلطة وهو بعض الإرث الاستعماري الذي لم نستطع التخلص منه حتى بعد أن نلنا استقلالنا منذ سنوات بعيدة، ومارسنا كل ألوان الغباء السياسي عبر الطائفية والحزبية والانقلابات العسكرية وصراع القوى السياسية التي ترفض القَبول بالآخر وتسعى جاهدة إلى شطبه وتغييبه عن الخريطة السياسية.
هنا أنا لا أستثني أحدًا، فقد جربنا صنوفًا من النظم الشمولية من طائفية ويسارية وإسلاموية، وجميعها لم تنجح في ابتكار نموذج جديد للحكم يقوم على التوافق والقَبول والتراضي، بذات الوقت الذي عجزنا عن بناء مؤسسات دستورية عميقة وراسخة تعمل من أجل هدف واحد هو النهوض بالوطن.
الصورة الآن شائهة، ومُستقبل السودان بات رهين طموحات سياسية لجنرالين، والأفق قاتم، والتطلعات السياسية للجماعات العقائدية مُستمرة ومُتقاتلة، وحدث تهتك كبير في الشخصية السودانية، وأساءت 30 عامًا من الحكم الشمولي لحكم الإنقاذ إلى صورة وطن عُرف بالطيبة والتعايش والتسامح، وأصبحنا مثل الضباع الجائعة والمُتوحشة التي تأكل بعضها بعضًا وتعجز عن استخلاص نموذج تنموي يُحقق النهوض ويقود إلى التنمية والبناء.
كارثة السودان الراهنة هي انتشار الفساد على مُختلف المُستويات حتى الشعبوية منها، ونخر هذا الفساد في مؤسسات الدولة، فيما تراجعت الخدمة المدنية التي كان يُضرب بها المثل.
مثل الطحالب البشرية ظهرت طبقة من الانتهازيين الذين باتوا عرضة للبيع والشراء في وقت تراجعت فيه النخوة والشهامة والانتماء، وأصبحت فرمانات التخوين والعمالة والارتزاق تُوزّع بالمجان على القوى السياسية المُخالفة.
كل أهل السودان يهتفون اليوم وهم في المنافي والملاجئ «لا للحرب» إنقاذًا لحاضرهم ومُستقبل أطفالهم، والطريق إلى السلام يبدأ بالإرادة والتوحد وجمع الصف وإسقاط التناقضات الثانوية لمصلحة التناقض الجوهري والوجودي، وعلينا جميعًا أن ننتصرَ للسودان الوطن الشامخ والعملاق، وأن نسقطَ كافة المؤامرات الدولية والإقليمية والوطنية، وما لم نتوحد فإننا «سنؤكل يوم أكل الثور الأبيض» ولا نريد لشعبنا أن يعيشَ اللجوء بكل مراراته كما لا نريد لأطفالنا أن يتذوقوا طعم التشرد والحرمان من التعليم والصحة والرعاية.. نُريده وطنًا شامخًا ورائعًا يليق بالسودانيين جميعًا.