كل عبير حرية ليس سوى غزة
بقلم/ فيصل مكرم:
بماذا أُحدِّث اليوم عن غزة.. تاريخٌ ومنعةٌ.. قوة وصمود في وجه العواسر والكواسر عبر تاريخها المديد وقرونها الطويلة .. ثم في زمنٍ منفلت عن واقعه وعن وعيه والهوية.. أصبحت غزة سجنًا يشبه مدينة ومدينة تنام مفتوحة العينين تخشى عدوها وتحتضن تاريخها المثقل بالحقب والسِّير والأمجاد وحاضرها المؤلم وبذات الذراعين.. تتقلب على أوجاعها المؤلمة، وعيناها الزرقاوان كبحرها.. وخدودها القمحية المرسومة كرمال شطآنها وشموس تلالها ووديانها. وغرائس الزيتون الثائرة على من سقوها وهجروها ثم أذاقوها من مرارة الأزمنة القاسية.
هذه هي غزة.. حين تذرف دمعةً يموت ألف حرٍ فكيف لها نَزفَ دمعتين ولم تكن في يومٍ باكية، تتحدث عن أرض غزة نفسها، وتتكلم بلغات العالم حولها، وتتناثر أطايبها فتشمُ القدس عطرها وترقص على نغماتها وأهازيجها ذكريات لا تُنسى من أقصى الجليل إلى القدس والأقصى، وتنادى الثائرون من أهلها صوامع المساجد وأجراس الكنائس وأزهار الكروم هناك محتلٌ غشوم يجثم على صدري في غيابكم فارفعوا عني قذاراته.
غزة حين تتوقف عن الفرح يحزن العالم، وحين تبتسم يضج بالفرح والسلام.. غزة عَبرت منها قرون وعوالم ولم تَعبُر معها، ونُسجت عنها روايات وحضارات من عبروا ومن رحلوا ومن تحدثوا، ومنها كان البناء والبنيان، أيها الباغون المتخمون بالهمجية والبربرية أما فهمتم بأن غزة من حبائل أرض تلفظكم ولا تطيق أفعالكم، فكل فلسطين غزة وكل عربي غزة وكل عبير حريةٍ ليس سوى غزة.. وغزة وحدها بألف مدينة مما ألِفتم وشعبها عربي نقي لا تطاله عفونتكم، حين تنام غزة وحين تصحو وحين تبتسم وحين تغضب وحين تقاتل تجتمع في جسارتها ونقائها كل العوالم العاشقة للحرية.
مُذ كانت الأرض عطشى كانت غزة واحة، وحين كان العابرون للحضارات يرسمون منافعهم على جُدران رملٍ حجري .. وحين يعود الغائبون وينحتون ذكرياتهم على قبورٍ الأزمنة الغابرة.. وحين كان الشعراء فرسانًا يسابقون الريح وبأيديهم نضال الكلمة والعبارات الخالدة، وقبل أن يأتي زمن الخانعين، وزمن الراكعين لغير ربهم، كانت هنا فلسطين وكانت غزة ابتسامتها المشرقة.
غزة كأمها وأبيها وعسقلانها وقدسها جُبلت على نحت ترانيم الحياة على تماثيل الموت المغمضة وهي مبصرة.. كانت هنا تستقبل الأرض آتية إلى شطآنها قبل أن يجيء بها الطوفان فصار طوفانها يُحكى بكل لغات العالم وكل الألسنة.
صحفي وكاتب يمني