المنتدى

دافوس.. ما المطلوب لعودة الثقة؟

بقلم/ د. علي محمد فخرو:

مسرحية دافوس التي مضى على عرضها نصف قرن، تعود من جديد، وكجزء من الثقافة الشعاراتية الإعلانية في حضارة الغرب يجتمع ممثلوها هذا العام تحت شعار «إعادة الثقة» . إعادة الثقة، ويا للعجب وللسّذاجة، في إمكانية تحسين أو حل مشاكل مَسيرة عالم في طريقه للابتلاء بعشرات العلل والتشوهات الجديدة التي ستُضاف إلى قائمة عشرات العلل والتشوهات القديمة لتصبح في النهاية كارثة حضارية كبرى، يتحدث عنها القاصي والدّاني بهلع.

أية ثقة يمكن أن تُسهم اجتماعات دافوس في إرجاعها إذا كانت إحدى الصحف السويسرية قد وصفت منذ يومين تلك الاجتماعات بأنها أقل أهمية من اجتماعات السبعة، أو حتى المجلس الأوروبي، وبالتالي فإنها شيئًا فشيئًا قد أصبحت لا تمثل أكثر من مظاهر فارغة خالية من أي معنى، وأن وزنها في العالم ضعيف، وأنها ما عادت أكثر من موعد يحضره كبار المسؤولين وكبار الأغنياء في العالم، ليمارسوا الثرثرة والعلاقات العامة، ويتمتعوا بالأكل الفاخر والشراب، ويدفعوا من أجل ذلك أموالًا طائلة، وصلت إلى دفع مبلغ ستمئة ألف يورو، كاشتراك من قبل بعض الجهات المشاركة.

ويتساءل البعض هل من الممكن عودة الثقة في مسيرة عولمية سمحت لثروة تقدر باثنين وأربعين ألف مليار دولار، تولّدت وأضيفت إلى ثروة العالم خلال الثلاث سنوات الماضية، أن يدخل ثلثاها (أي ثمانية وثلاثين ألف مليار دولار) في جيوب مجموعة أغنياء العالم التي لا تزيد عن واحد في المئة من سكان العالم، بينما يذهب الثلث الباقي إلى 99% من سكان العالم في شكل مساعدات وخدمات لمواجهة الفقر والجوع والتضخّم والبطالة والأمية والأمراض الجديدة المُتنامية؟

ويقولها البعضُ صراحة: أليس بعض الحاضرين في اجتماعات دافوس هم من مسببي بعض مشاكل العالم تلك؟ ومن المستفيدون من كوارثها؟ فهل إنقاذ الخروف يمكن أن يكون على يد الذئب؟

إنها أسئلة موضوعية تذكّر القراء بقول شهير للرئيس الأمريكي الراحل الجنرال إيزنهاور، الذي وصف منذ عقودٍ طريقةَ تعامل العالم مع قضاياه. قال: إن مشكلة هذا العالم هو أنه لا يعامل المواضيع المهمة كمواضيع مستعجلة، وإذا واجه المواضيع المستعجلة فإنه لا يتعامل معها كمواضيع مهمة.

ولذلك فلن نستغرب إذا تعامل الحاضرون بتلك العقلية المشوشة، عند طرح موضوعي حرب أوكرانيا ومذبحة غزة. فموضوع غزة لن يكون أكثر من موضوع مستعجل لإطفاء حريق! ولكن ليس لحل قضيته، بينما سيكون موضوع أوكرانيا موضوعًا مهمًا للبشرية، بل ولمستقبل الحضارة. مندوبو أمريكا وألمانيا وبريطانيا مثلًا سيقولون ذلك وسيغطّون الحقائق بألف قناع. فهل سيجرؤ الآخرون على معارضتهم وقول الحقائق الدامغة، بشأن الجرائم والاستعمار والاستباحات الإسرائيلية عبر خمس وسبعين سنة، أم أن الأمر المستعجل سيسود وسيتمثل في إدخال الغذاء والماء والبترول والدواء إلى أهل غزة؟

نأتي على ذكر هذه الأمثلة لنقول بأنه إذا كان المُجتمعون يريدون عودة الثقة في ما يقولونه في ذلك المُنتجع السويسري بشأن العالم، فإن أول ما يجب أن يفعلوه هو أن يناقشوا ما هو مهم في هذا العالم: والمهم فيما يجري في عالمنا هي الأسباب التي تقود إلى ما يحدث من أحداث وكوارث، وهي أسباب فكرية وسلوكية وقيمية تلاعب بها الغرب الاستعماري عبر عدة قرون وآن أوان أن تكشف كل أشكالها، وأن يشار إلى الجهات التي استفادت منها.

وهذا سيعني أن الذين أسّسوا هذه المؤسسة يجب أن يعاودوا النظر في أهدافها وطريقة عملها وفي قائمة مدعوّيها. فقد تبين عبر السنين أن قسمًا كبيرًا ممّن يدفعون المبالغ الطائلة للاستمتاع بدافوس السويسرية الجميلة لا يأتون هناك ليكتشفوا مع غيرهم طرق الخلاص، وإنما يأتون ليقولوا كلامَ علاقات عامة مجمّلة لهم، ولأنظمتهم الفاسدة ويعودوا إلى بلدانهم ليفاخروا بأنهم كانوا من النخبة العولمية الذكية العاقلة المعنية بمصير البشرية.

عودة الثقة ستحتاج إلى سنين من التفكير الموضوعي في مهمة دافوس، أما الشعارات المؤقتة فإنها لن تكون أكثر من زَبَد، وبصراحة فإن البشرية قد تعبت من وضع الثقة فيمن يتعاملون بعقولها وعواطفها وقيمها بخفّة وضحك على الذقون.

عمر منتدى دافوس أكثر من خمسين سنة، وفي هذه الخمسين سنة تراجعت البشريةُ في كثير من جوانبها، دون أن يكون للمنتدى أي تأثير لإيقاف هذه التراجعات، مشكلة الثقة تكمن هُنا.

العلامات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X