بقلم/سامي كمال الدين:
أخبرني مدحت عُرابي مدير مكتبها أن «الأستاذة سناء البيسي غير موجودة» ارتبكت، امتقع وجهي، نظرت حولي بينما موظف الاستقبال في مؤسسة الأهرام يأخذ مني سماعة الهاتف ويعيدها إلى مكانها، نظرت إلى صديقي وزميلي خالد حماد، موقف كهذا كاد يجعلني استسلم لولا أن عِرق الصعايدة «نقح عليَّ» إذ كيف تحدد لي موعدًا ثم لا تنتظرني، كنت فاكر نفسي محمد حسنين هيكل!، تذكرتُ عمر الشريف بسبب موقف حدث لي معه يشبه هذا الموقف وله قصة طريفة ليس هذا أوانها، هاتفت سناء البيسي على هاتفها المحمول من كشك تليفونات في منطقة الإسعاف في شارع رمسيس، في مكالمة دقيقتين كلفتني ثلاثة جنيهات، حيث كانت دقيقة الاتصال عبر الهاتف المحمول تكلف جنيهًا ونصفًا عام 2001!
كدت أقول لها كيف تحددين لي موعدًا وتخلفينه يا أستاذة، ما إن قلت لها اسمي حتى قالت لي أنا انتظرك لماذا تأخرت؟!
عدت إلى مبنى مؤسسة الأهرام، مثل قائد معركة ظفر بنصره منها، وجدتهم في انتظاري، بعد أن ترك لهم مدير مكتبها خبرًا بأن أصعد إلى مكتبه فور وصولي.
اتجهت إلى المصعد، في طريقي إليه تذكرت المرات التي جئت فيها قبل ذلك إلى مبنى مؤسسة الأهرام عابرًا للقاء أصدقاء أو إجراء أحاديث صحفية مع كُتاب مثل: مصطفى محمود، سلامة أحمد سلامة، أنيس منصور، محمد سلماوي، فاروق جويدة وغيرهم، في صحف فقيرة.
ذكرني المصعد الذي توقف في الدور الخامس في المبنى الجديد -حيث تقع مجلة نصف الدنيا- بالمرتين اللتين جئت فيهما إلى المجلة زائرًا قبل ذلك، في الأولى قررت عمل مقلب في صديقي عمر طاهر، أخبرت الاستقبال في الأهرام أنني سامح الأسواني -صديقنا المشترك- ووقف عمر أمام المصعد ينتظرني طويلًا، لأن سامح كان لا يحب زيارة الأهرام يسميها مؤسسة البرجوازيين، لم أصعد إليه مباشرة، انتظر طويلًا، تبرَّم حين اكتشف المقلب، ثم جلسنا نضحك طويلًا.
الزيارة الثانية كانت للقاء الشاعر أحمد الشهاوي، مدير تحرير مجلة نصف الدنيا وقتذاك، كنت أحمل في يدي خطاب الصديق د. مصطفى رجب عميد كلية التربية جامعة سوهاج، وتوصية من الشاعر فارس خضر، لكن أخبرني بعدم وجود فرصة عمل، وأضاف لي الكثير في مهنة الصحافة بعد ذلك.
استقبلني مدحت عرابي بتبرّم وضيق -سيذكِّره المصور الراحل محمد حجازي بهذا الموقف كلما اجتمع ثلاثتنا في مكان- بعد دقائق كنت في حضرة سناء البيسي، يدها الممدودة بالسلام والترحيب امتدت معها آلاف الكلمات التي قرأتها لها، ها هي التي تغزل بالكلمات فتبدع أروع الكتابات، بأسلوبها الفريد ولغتها الراقية وانتقائها للكلمات.
جمال الأسلوب لم يكن مُختلفًا عن شخصيتها، أناقة الكلمة اجتمعت مع اختيارها لألوان ملابسها، مع اللوحات المعلقة على الحائط ومنها لوحات منير كنعان ولوحات من رسمها ولوحات تتنافر مع كل هذا من رسم فاروق حسني!
بعيدًا عن كرسي مكتبها وعلى طاولة تتناثر عليها أوراق «دشت» من موضوعات صحفية وورق رسم إخراج المجلة، وأقلام رصاص مع أقلام متنوعة الألوان جلست معها، أمام هذه التشكيلة، تذكرت ذلك الطفل القروي الذي قرأ وهو في الإعدادية مجلة اسمها نصف الدنيا فكان يحلم بأن يعمل في هذه المجلة، ويُكتب اسمه فيها، ها هي صاحبة مسلسل «حكايات هو وهي» تطلب للطفل القروي عصير ليمون ثم قهوة تركي وتتصفح أرشيفه، فيحين «الكلام الساكت» مرددًا «أموت وأفهم» ماذا سيحدث معي في «مصر يا ولاد» ؟!
فتحت أمامها أرشيفي -الذي حدثتكم عنه في المقال السابق- طالعَتْ عناوين الموضوعات الصحفية ما بين تحقيقات سياسية وثقافية وفنية، شغلها أكثر ما شغلها تحقيقات الشارع عبر موضوعات عن مشاكل المواطن المصري مع عدة أحاديث مع نجيب محفوظ، لا أستطيع أن أنسى لمعة عينيها وإعجابها بالمواد التي أمامها، قالت ضاحكة: نجيب محفوظ «حكر» على مجلة نصف الدنيا في هذه المرحلة، فكيف التقيته وأجريت معه هذه الأحاديث؟!
قلت لها بعد أن تصفحت عدة موضوعات لي: أريدك أن تمنحيني فرصة للتدريب في المجلة.
قالت لي ضاحكة: تدريب إيه اللي أنت جاي تقول عليه، بعد هذا الأرشيف. أريدك أن تعمل معنا، أريد أفكار مثل هذه لكن تكون جديدة، نادت مدير مكتبها قائلة له سامي سيأتي لي بعد ثلاثة أيام رتب معه الموعد وحين يأتي يدخل فورًا.
ثلاثة أيام ربما نمت فيهم ساعات معدودة في انتظار قدري، وفي الموعد المحدد قدمت لها ٢٥ فكرة موضوع صحفي وافقت على ٢٣ منها، بل قالت لي هذا الموضوع يحتاج إلى ملف تحقيقات نستطيع جمعه في عدد واحد، هل تستطيع السفر إلى الصعيد بعد غد لتنفيذ هذه الفكرة ومعك مصور من المجلة؟! فبُهت الذي حلم حلمًا ورآه أمامه ولم يصدق، عرفتني على الأستاذ محمد السهيتي- أحد المصورين الكبار في الأهرام- سافرنا معًا لتنفيذ الفكرة، عدت لأجدها طلبت من عدد من الزملاء الكبار في المجلة الكتابة في هذا الملف الذي تصدَّر موضوعي فيه غلاف المجلة وكان الموضوع الأول في الملف وعليه اسمي: تحقيق: سامي كمال الدين، تمنيت أن يقرأه الأسطى ياسر مبلط السراميك الذي عملت مساعدًا له، وتذكرت قول نجيب محفوظ: «الحياة لا تعطي دروسًا مجانية لأحد فحين أقول: الحياة علمتني تأكد أنني دفعتُ الثمن».
إعلامي مصري