قضايا وأحداث …. المديونية في فلسفة المجتمع واختيار الحكام
في كل لقاء بين الشعب والمرشحين في أي استحقاق انتخابي، تمثل المدينة علاقة دائمة بين الأخذ والعطاء والوعود والتوقعات. وهناك تفاصيل دقيقة بعضها إيجابي وبعضها سلبي. حيث إن الديمقراطية تمثل علاقة وثيقة بين وعود المرشحين وتوقعات الشعوب. وتهتم بتقديم أجوبة على تساؤلات: ماذا سيحصل الشعب مقابل أصواته التي يريدها الطامحون في الوصول لحكمه؟ أو ما المطلوب من الحاكم؟ وكيف يمكنه الوفاء بوعوده؟
فالحقيقة أن إدارة المدن ليست مجرد سلسلة من التطبيقات لأشكال هندسية مثالية قائمة على الأساليب العلمية والتقنية بأفضل طريقة. بمعنى أنها ليست مجرد أداء ونظام آلي مثالي يراعي احتياجات سكان المدينة من المياه والغذاء والنقل والنظافة. فلا بد من الإدارة الجيدة والعادلة للاختلافات الاقتصادية والطبقية والثقافية والعرقية للمدينة.
ومن هذا المنظور، يمكن بالطبع تصنيف المدن اليوم وتقييمها بطرق مختلفة. فعندما نتذكر ما تسببه المدنية من ديون، نرى أن المسألة ليست مقتصرة فقط على «الإدارة». فالمدينة هيكل اجتماعي يتكون من شبكة معقدة من العلاقات. وفي هذه الشبكة، لا تقل جودة المحكومين أهمية عن جودة الحكام. وكذلك فإن ظهور مشكلات الأبنية الشاهقة، والمساحات الفاخرة الخالية من الناس، وانخفاض علاقات الجوار، ليست مجرد مشاكل في الحكام، بل هي مشكلة مرتبطة بالتطور المأساوي للإنسانية.
هذا إلى جانب أن ما نشكو منه في هذا العصر هو إلى حد كبير نتيجة نسياننا أو إهمالنا أو إنكار مديونياتنا؛ فالنسيان أو الإهمال أو الإنكار، بمختلف مستويات عدم المسؤولية، كلها تقود للانجراف نحو نهاية العالم. فليس هناك أحد مُعفى من الديون في نظام تقسيم العمل الذي تفرضه حياة المدينة. ولذلك لا يمكن لمنظماتنا غير الحكومية وقادة الرأي والمنظمات المجتمعية والمجموعات المهنية أن تفلت من مسؤوليتها عن السلبيات والمشكلات التي نشهدها، وتنسبها إلى شريحة واحدة أو مسؤول واحد.
لو أنهم تدبروا في مدى المسؤولية الملقاة عليهم جراء نظام المدينة الذي يقوم على تقسيم الأعمال، لعرفوا مدى مديونيتهم لهذه المدينة؛ لأن المجتمع الذي لا يعرف ديونه ولا يعترف بها لا يمكنه حساب أي شيء بشكل صحيح.
فقادة الرأي الذين يستعجلون لإجراء تغييرات واسعة في مجتمعهم دون دراسات وحسابات دقيقة، ويعتقدون بأنهم يقومون بأعمال صالحة بأسلوبهم الخاص حين يبنون مسجدًا على أرض عامة، وكذلك يضعون أنفسهم في منزلة فوق الآخرين وكأنهم لا يدينون بأي شيء للآخرين أو لمجتمعهم، لا شك ينسون أنهم جزء من الهيكل الاجتماعي الذي يكوِّن المدينة ويساهم في فعالية نظامها.
والمجتمع -كما هو معلوم- مثل الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو، فإن باقي الأعضاء تحس بالألم نفسه. فما بالك إذا تحرك عضو من الجسم بطريقة تضر وتؤذي الأعضاء الأخرى، كيف يؤثر ذلك على سلامة الجسم أو بماذا سيشعر هذا الجسم؟!
وكما أن التحضر يستلزم العمل الجماعي لسداد ديونه، فإنه لا يجوز لمن لا يعرف ولا يعترف بهذا الدين أن يتولى إدارة المدينة، فإن وصول هؤلاء الذين لا يشعرون بضرورة عقد العزم على سداد تلك الديون، يمثل اختبارًا صعبًا للمجتمع كله الذي يهتم كثيرًا بما سيقدمه الأشخاص الذين سينتخبهم. وكم منهم سيستمر في هذا النظام دون السعي وراء امتيازات لنفسه؟ وكم منهم لا يرى أو يشعر بحقه في الامتياز على الآخرين؟! أليست مدننا مليئة بأشخاص يريدون تطبيق القواعد على الجميع، لكنهم يعتقدون أنهم فوق الجميع ويمكنهم التمتع بامتيازات دون الآخرين؟!
هناك أشخاص وجماعات وجمعيات وأيدولوجيات وعائلات وقبائل تعتبر نفسها دائنة للمجتمع. والواقع أن المدينة هي المكان الذي يدين الجميع فيه للآخرين، وتبدأ المدينة في معرفة قيمتها وجودتها حينما تصبح فكرة المديونية وعيًا عمليًّا. فعندما يشعر الناس بمديونيتهم، فإن الشعور بالامتنان يزيد أيضًا. والامتنان للخالق يبدأ بالشكر للمخلوق، ومن لا يعرف كيف يشكر الخادم الذي يدين له بالمال لا يمكنه التعبير عن امتنانه للخالق. فالشخص الذي لا يرى حتى مديونيته في المدينة بالكاد يرى أنه مدين للخالق. ولهذا السبب تمتلئ مدننا بأشخاص حاقدين لا يعرفون معنى الشكر، لأنهم لا يرون أنفسهم مدينين، بل يفكرون دائمًا أنهم دائنون طوال الوقت، ويتصرفون مع المجتمع على هذا الأساس.
أكاديمي وسياسي
وكاتب تركي