المنتدى

حديث عابر عن دولة الرفاهية (2)

بقلم/ د. محمد نشطاوي:

من الشائع تعريف دولة الرفاهية بشكل كلاسيكي من خلال مقارنة نموذجين رئيسيين لدولة الرفاهية: دولة الرفاهية البسماركية (نسبة إلى المستشار الألماني أوتو فون بيسمارك 1815-1898)، والتي تأسست في ألمانيا بموجب قوانين عام 1880، ودولة الرفاهية البيفريدجية في المملكة المتحدة (نسبة إلى تقرير اللورد ويليام بيفريدج سنة 1942)، والتي استندت إلى العلاقة بين التأمين الاجتماعي والخدمات المرتبطة به.

وإذا كان النموذج الأول يقوم على آلية التأمين الاجتماعي، حيث تكون المزايا نظير الاشتراكات، فإن النموذج الثاني، الممول من الضرائب، يوفر مزايا موحدة لجميع أفراد المجتمع.

وهكذا، فإن أهداف دولة الرفاهية وفق النموذج البسماركي تهدف إلى التعويض عن فقدان الدخل. أما وفق النموذج البيفريدجي، فإنها تهدف إلى الاستجابة لمخاطر الحياة.

وفيما يتعلق بشروط الحصول على المزايا، فإنها وفق النموذج الأول، يجب على من يريد الاستفادة أن يكون قد ساهم. أما وفق النموذج الثاني، فيجب أن يكون المستفيد في حاجة إليها.

أما بخصوص التمويل، فإن النموذج البيسماركي يربط ذلك بالاشتراكات على أساس الدخل، في حين أن النموذج البيفريدجي يربط ذلك بفرض ضرائب على الجميع.

ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تطورت دولة الرفاهية بشكل ملحوظ في الدول الغنية. وقبل ذلك وفي سنة 1935، أصدر الرئيس الأمريكي روزفلت قانون الضمان الاجتماعي كجزء من الصفقة الجديدة، لتوفير الحماية للعمال الأكبر سنًا والعاطلين عن العمل والأمهات العازبات.

وعلى الجانب الإنجليزي، أصر تقرير اللورد بيفريدج لعام 1942 على الحاجة إلى دولة أكثر حماية، وإلى إعادة توزيع من خلال خلق نظم اجتماعية تهم تغطية جميع السكان، وليس الموظفين فقط، وذلك وفق ثلاثة مبادئ تعمل على إنشاء خدمة عامة مبسطة واحدة، ممولة بمساهمة واحدة، وشمولية التغطية الاجتماعية لكافة السكان، مع العمل على توحيد المزايا بغض النظر عن مستوى الدخل.

وقد أبرزت نهاية الحرب العالمية الثانية ضرورة العمل على استعادة السلم والعدالة. ففي سنة 1945، أنشأت فرنسا الضمان الاجتماعي، الذي لا يزال أحد أسس «النظام الفرنسي» حتى اليوم. ومن خلال الاستقطاع من الرواتب، تُدفع المساهمات الاجتماعية لجميع المواطنين الفرنسيين لتغطية المخاطر الاجتماعية (المرض، الأمومة، العجز، الوفاة، حوادث العمل، إلخ).

ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن نوعية الحياة المذكورة هنا تتعلق بالسكان الغربيين، ولا تأخذ في الاعتبار عدم المساواة الاجتماعية والعنصرية السائدة داخل المجتمعات الاستعمارية.

وفي سنة 1990، اقترح غوستا إسبينج أندرسن في كتابه (العوالم الثلاثة لدولة الرفاهية) تعريفًا آخر أكثر شمولية وتحديثًا، إذ اعتبر أنه لا يمكن تعريف دولة الرفاهية فقط من خلال الحقوق الاجتماعية التي تمنحها للمواطنين، إذ يجب أيضًا الأخذ في الاعتبار: «الطريقة التي يتم بها تنسيق أنشطة الدولة مع أدوار السوق والأسرة في الضمان الاجتماعي».

وبناءً على هذه الملاحظة والمؤشرات الثلاثة، يمكن التمييز بين ثلاثة أنظمة رئيسة لدولة الرفاهية وفقًا لثلاثة معايير مرتبطة بدرجة «عدم تسليع» المجتمعات؛ ودرجة التقسيم الطبقي الاجتماعي (أي تأثير دول الرفاهية على التسلسل الهرمي الاجتماعي وأوجه عدم المساواة التي يحركها السوق)، ثم أخيرًا المكانة النسبية الممنوحة للمجال العام والمجال الخاص.

كما اقترح تصنيفًا يشير إلى استمرار الهوية الوطنية القوية للأنظمة الاجتماعية، المرتبطة بنوع الرأسمالية. ووفقًا له، فإننا نميز بين الدول الاسكندنافية نموذجًا أولًا، وهو النموذج الديمقراطي الاجتماعي، الذي تتمثل سمته الرئيسة في السماح بالوصول إلى مستوى عال من المزايا والخدمات لجميع السكان، وأن النتيجة الطبيعية له هي قبول نسبة عالية من الخصومات الإجبارية.

ويتناقض هذا النموذج مع النموذج الليبرالي الموجود في بريطانيا العظمى والولايات المتحدة وكندا، والذي يكتفي بتقديم العلاج ضد الفقر. ويختلف هذان النموذجان عن النموذج الموجود في النمسا أو ألمانيا أو بلجيكا أو فرنسا، حيث يغطي هذا النموذج الأخير المخاطر الاجتماعية التي تعتمد بشكل رئيس على النشاط المهني. وهو نموذج للمساعدة في فترة الأزمات، لأن التمويل من خلال المساهمات الاجتماعية يربط بين حماية المواطنين وتشغيل العمالة، وهو ما يؤدي في أوقات البطالة الجماعية إلى مجتمع مزدوج على نحو متزايد.

إلا أنه يجب التذكير بأنه منذ القرن السابع، أسس النبي محمد صلى الله عليه وسلم نظام الزكاة، والتي تعني «التطهير»، «كصدقات قانونية» باعتبارها الركن الثالث من أركان الإسلام، والتي تهدف إلى التزام المسلمين بدفع الصدقات المحسوبة على أصولهم السنوية للفقراء كنوع من إعادة توزيع للثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية.

وحوالي عام 820، أنشأ الخليفة المأمون أيضًا دورًا صحية (دار الشفاء)، وهي أول المستشفيات التي كانت الرعاية فيها مجانية، وتمول من بيت مال المسلمين، حيث استند الخليفة، في تبرير هذا الإصلاح، إلى حديث عن ابن عمر – رضي الله عنهما عندما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».

وهكذا توفر السياسات الاجتماعية الشرعية والسلم الاجتماعي، وبالتالي فإن استعداد الحكومات لتقديم المساعدة الاجتماعية يعتمد بدرجة أقل على الحاجة الملحة، بقدر ما يعتمد على التهديدات المتصورة للاستقرار الاجتماعي.

 

[email protected]

العلامات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X