مجرد رأي …. منابع القوى.. الدِيمَاغُوجِيَّة

دروس من الغوغائية إلى الحرية
منذ عشر سنوات كتبت عدة مقالات في الصحافة القطرية تحت عناوين (منابع القوى: الأوليغاركية)، و(منابع القوى: السلطوية والأناركية)، واليوم وبعد مرور عَقدٍ على تلك السلسلة ونظرًا للتحوّلات السياسية السريعة والمُتفاقمة في هذا العام قررت أن أُسلطَ الضوءَ على بعض تلك المفاهيم السياسية لمنابع القوى الجديدة من خلال مقال اليوم «الدِيمَاغُوجِيَّة»، حيث يعرف هذا المصطلح السياسي بأنه «النشاط أو المُمارسات السياسية التي تسعى إلى الحصول على الدعم من خلال مُناشدة رغبات الناس العاديين وتحيّزاتهم بدلًا من استخدام الحُجة العقلانية»، أي باختصار الكذب عليهم وتخويفهم للحصول على النتائج المرجوة.
لا يمكن إنكار فاعلية هذه السياسة، فمَن مِن الساسة لا يُريد أن يُحققَ أهدافه دون حسيب أو رقيب أو إزعاج «جماهيري»؟ إلا أن الثمن الذي تدفعه تلك الشعوب مُقابل المُشاركة في هذه التصرفات والتي نعرفها بالغوغائية – الوجه الآخر للديماغوجية – دائمًا تصنع من المواطنين الأبرياء ضحايا لطموحات أسيادهم السياسية، فمن نشر الأخبار الكاذبة واستثمار تلك الأكاذيب لشيطنة شخص ما أو دولة مُعينة، إلى استهداف نمط حياة المواطنين في دولهم أو دول أخرى، نجد أن هؤلاء – وعادة ما يكونون من فئة من يُعرفون بالإعلاميين أو المؤثرين – هم من تتلطخ أياديهم بمآسي من يتّبعهم.
لقد أدّت الديماغوجية في السنوات الأخيرة إلى ارتفاع أصوات في الغرب تُنادي بالتطهير العِرقي وبالإسراع نحو الحروب، أو تأييد القاتل وإلقاء اللوم على المقتول، وأدت إلى نهوض ما تسمى ب»الحقائق البديلة» أو ما كنا نُسميها في الماضي بالأكاذيب، وللأسف لا يوجد حل في الأفق لهذه المعضلة، فنجد اليوم جامعات أمريكية عريقة تنجرف خلف الشائعات دون تحقق، ونرى الغرب يُبرّر لقتل المدنيين الأبرياء من باب التصدي «لمُكافحة السامية»، كل ذلك ليُصبح التفكير المنطقي منبوذًا والمنطق مكروهًا والحقيقة زيفًا يجب القضاء عليه في هذا العالم «المقلوب».
والآن وبعد أن تعرفنا على بداية هذا الفصل من منبع هذه القوة المُعادية للحريات والتفكير الحر، ماذا عسانا أن نفعلَ تجاهه؟ أولًا، لا يمكن في عصر الإعلام المُتسارع والتواصل الاجتماعي تأجيل أي رد، ولا يمكن الصمت من باب «الترفّع» – ومع كون هذا مبدأً أخلاقيًا «بلا شك» – إلا أنه لا يتناسب مع الواقع المُعاصر للإعلام الحديث، ففي النهاية «الخَسارة الخلّاقة» هي أيضًا خَسارة «بلا شك».
إن سرعة التعرّف على خيوط الديماغوجية وسرعة اتخاذ القرار حيالها هي من أسس التصدي السليم والناجع لتلك الآثار الأولية قبل أن تتجذر، وتُنبت الوجه الآخر الذي ذكرناه «الغوغائية»، ولهذا يجب على كل فرد ومؤسسة أو دولة تُريد التصدي لهذه الآثار أن تضعَ الأسس السليمة في العمل المُستدام لا ردود الفعل الفورية، من سياسات وأسس التحليل والتواصل والتأثير المُضاد، قبل أن تعملَ تلك الآثار على تآكل النسيج المُجتمعي والوطني، والدولي كذلك.
الرأي الأخير:
بعد النظر إلى تأثير الديماغوجية والغوغائية على بنية المُجتمع والمشهد السياسي، تَبرز بجلاء ضرورة تضافر الجهود وتعزيز الوعي المُجتمعي لمُجابهة هذه الآفة، ففي الغرب اليوم تهتز أركان الديمقراطية والحريات العامة تحت وطأة هذه المُمارسات الخادعة والتضليلية، ويكمن السبيل في التصدي لهذا التحدي في ترسيخ قيم التعليم النقدي، والنزاهة في النقاشات العامة، والمُحاسبة الإعلامية، ليقع على عاتق كل فرد منا دور في هذه المسؤولية، من خلال البحث والتساؤل، والتفكير النقدي، والمُشاركة الإيجابيّة ضمن الفضاء العام في مواجهة التحديات الديماغوجية.
(عندما تغيب العقلانية، تحضر الغوغائية)
إلى اللقاء في رأي آخر،،،
كاتب شؤون دولية وقانوني قطري