الباب المفتوح …بائعة الكبريت في غزة
كتب الأديب الدنماركي هانس كرستيان في العام 1845 ميلادية روايته بائعة الكبريت، والتي تحتوي على إسقاط المادية السلوكية مع الرأسمالية المجتمعية، وهي ببساطة سلوك المجتمع الإنساني تجاه الأمم الأقل حظًا، وقد انتشرت القصة بشكل كبير في عدة حقب زمنية وحتى وقتنا الحاضر وأخذت أشكالًا عدة منها الأفلام المصورة القصيرة أو الكرتونية والمسرحيات وغيرها، والسبب وراء ذلك هو مساسها بالجانب الإنساني المجتمعي في ظل المادية الرأسمالية، وقبل إسقاط القصة على أحداث غزة دعونا نمر سريعًا على أحداثها.
بدأت الحكاية في ليلة رأس السنة، شديدة البرودة، حيث كانت تلك الفتاة الصغيرة ذات الشعر الأشقر تجوب طرقات المدينة المكتظة بالناس، علَّ أحدهم يشتري منها أعواد الكبريت، ولكن الجميع كان منشغلًا، ومستعجلًا ليستطيع شراء مستلزمات العيد، فلم يلتفت إليها أحد، غمرها الكل بنظرة التعاطف دون أن يقدم أي مساعدة، وخلال تجوالها فقدت ذاك الحذاء القديم الذي كانت ترتديه، فقد كان حذاء والدتها المتوفاة وكانت تجد صعوبةً في ارتدائه لأنه كبير، فازداد شعورها بالبرد، وتجمدت أطراف أقدامها.
كان الثلج مبهجًا عشية العيد لجميع الأطفال ما عداها، فهي التي تشعر بالبرد، والجوع، ولا تجرؤ على العودة إلى المنزل، لأن وليها سيوبخها إذا ما عادت دون أن تبيع ما بحوزتها من أعواد الكبريت، ظلت الطفلة تسير في شوارع المدينة، والثلج يزداد تساقطًا، والبرد والجوع ينهكان قواها، حتى استندت الطفلة الصغيرة إلى أحد الجدران لترتاح قليلًا، وتختبئ من لفح الهواء البارد على وجنتيها الصغيرتين. كانت تلك الزاوية التي لجأت إليها الطفلة المأوى الذي احتضن أحلامها، ففي غمرة شعورها بالبرد خطر لها أن تشعل عودًا لتتدفأ به قليلًا، كان دفءُ ذاك العود شيئًا جميلًا أشعل في مخيلتها دفء موقدٍ كبير تخيلته لبضع ثوان، وما لبث أن تبدد، فسارعت الطفلة لإشعال غيره لتعيد الشعور الجميل إلى مخيلتها، وهذه المرة تخيلت أنَّ مائدةً كبيرة تصطف أمامها تحمل أنواع الطعام، وتفوح منها رائحة اللحم الشهي، ثم ما لبثت أن تبددت المائدة كما الموقد قبلها. كان شعور الحزن التي عاشته الطفلة على غياب الأشياء التي تتخيلها يفوق ألم الجوع، والبرد، ولذلك عادت لتشعل عودًا آخر، في كل مرة تشعل عود ثقاب وتتمنى أن تنتهي هذه الليلة مع آلامها وبردها وجوعها وكأنها حلم، ولكن ألم البرد والجوع وقهر المجتمع المحيط غير المبالي أكبر من أحلام تلك الصغيرة التي نظرت أخيرًا إلى السماء لترى جدتها المتوفاة تدعوها للانضمام إليها حيث لا ألم ولا جوع، لا ظلم ولا قهر، فأشعلت ما بقي معها من أعواد الثقاب وطارت روحها إلى السماء لتنهي عذاباتها على هذه الأرض البائسة، وفي اليوم التالي استفاق أهل المدينة على هذا المشهد المحزن، لجسد تلك الفتاة الصغيرة مسجّى في إحدى الزوايا، وقد تجمدت من البرد، بينما كان الجميع يستمتع بدفء العائلة كل في منزله، لقد مرّ عليها الجميع ولم يشتر منها أحد، ولم يعطف عليها أحد، وعندما ماتت أدرك الجميع فقدانه لإنسانيته ومعنى وجوده، وأن ألمه سيستمر ويعيش معه إلى الأبد، لأنه فقد مع موتها بواقي إنسانيته، وأن محاولات التجاوز والمضي قدمًا وتجاهل مصير تلك الفتاة، سيفقدنا حالة احترام الذات والتوازن مع القيم التي نعيش عليها ونعلّمها لأبنائنا، ومفاهيم الصواب والخطأ، وحدود المقبول والمرفوض، والآن كل أطفال غزة بائعو كبريت، فلا طعام ولا أمان، يطعنهم ألم الإحساس بالتخلي والخذلان، قبل ألم البرد والجوع، يستيقظ العالم يوميًا على صور أجسادهم المسجاة على بواقي أرصفة الطرقات، وتلمع في كل ليلة مئات النجمات، لتلك الأرواح التي سكنت السماء، ذلك هو الوجه الآخر للمادية الرأسمالية، حيث ترتقي المصالح فوق القيم والأخلاق الأساسية لبناء البشرية، في غزة الآن أصبح الموت أكثر وسامة من الحياة، في كل ليلة يناديهم من السماء الأهل والأصدقاء بلسان حال جدة الفتاة.