سنعود رغم الموت.. و«الفيتو»
بقلم/ بابكر عيسى أحمد:
أكاد لا أُصدِّق أن كِيانًا غاصبًا ومُحتلًا يُمكن أن يزدري كل القوانين والمؤسسات الدولية السياسية والإنسانية، ويضرب بكل التشريعات الدينية والدنيوية عُرض الحائط، ويقف في وجه العالم بأسره بفضل الدعم والمُناصرة والمُساندة الأمريكية التي حوَّلت الأمم المُتحدة – المُنظمة التي تضم كل شعوب العالم – إلى أضحوكةٍ بسبب «الفيتو» الذي يُجهض كافة القرارات الكفيلة بتحقيق الأمن والاستقرار في هذا العالم المُضطرب الذي نعيش.
المذبحةُ الإسرائيليةُ في قطاع غزة الفلسطيني مُستمرةٌ منذ ما يزيد على الأشهر الخمسة، مُحققة دمارًا غير مسبوق استهدف المُستشفيات ودور العبادة والمدارس ومُخيمات اللجوء ومساكن المواطنين، هذا الدمار غير المسبوق – كما أشرت – يُتابعه العالم بالصوت والصورة دون أن يُحرّكَ ساكنًا، بينما يتحدّث آخرون بوقاحة غير مسبوقة عن الحق في الدفاع عن النفس، وكأن أطفال ونساء وشيوخ غزة هم الأهداف التي تُحقق النصر لإسرائيل التي تستهدف كل ما يدبُّ فوق الأرض الفلسطينية.
من تحت الركام والحطام الذي تُخلّفه طائرات العدوان الإسرائيلي تتعالى الأصوات والصرخات.. أين العرب؟ وأين المُسلمون؟ بل وأين المُجتمع الدولي الإنساني الذي يتشدّق بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. وأين إنسان غزة المطمور تحت الحطام والركام؟
لن يسألَ أحدٌ عن الجامعة العربية ولا مُنظمة المؤتمر الإسلامي وموقفها – الذي يفترض أن يكونَ حازمًا في مواجهة هذه المحنة الإنسانية – لقد تيبست مفاصل تلك المؤسسات الكرتونية ووقفت عاجزةً، فيما يذبح أطفال غزة من الوريد إلى الوريد، أي كارثة ننتظر أكثر من هذا الذي يحدث في وضح النهار حتى يستيقظ فينا الضمير وتُستثار النخوة؟!.
إن كانت إسرائيل القابضة على مفاصل الكِيان تتوهم بأنها قادرةٌ على تحقيق النصر الحاسم على حركة حماس وفصائل المُقاومة الوطنية المُسلحة، فإنها تعيش في وهمٍ كبيرٍ، لأن «شعب الجبارين» يرفض التهجير وتَكرار محنة 1948، واغتصاب الأرض لن يتحققَ، وهذا الوهم الكبير سيُكلف إسرائيل الكثير بسبب إرادة هذا الشعب المُقاوم، الذي هو على استعداد لتقديم كل التضحيات لتحرير أرضه وإقامة دولته الفلسطينية المُستقلة وعاصمتها القدس.
من تحت الأنقاض ومن فوق المشافي المُهدَّمة فوق رؤوس المرضى والأطباء وأطقم الإسعاف سيولد مئة «سنوار» وسيحمل راية الكفاح حتى يتحقق النصر المؤزر بإذن الله، راية النضال الوطني الفلسطيني لم تنكسر على امتداد ما يزيد على السبعين عامًا، قد تخبو تارة، لكنها لن تنطفئ، فهي شعلة مُتوهجة بالحق والعزيمة والإصرار على استعادة كل الحقوق السليبة.
ما يحدث من جريمة هو «بروفة» أولية للآتي، حيث «نؤكل يوم أُكل الثور الأبيض»، وعلينا كأمة عربية وإسلامية أن نستفيقَ من غفوتنا، فإن سقطت فلسطين، فإن قلاعًا كثيرةً سوف تسقط على رؤوس ساكنيها الذين آثروا الصمت والسلامة، ولن نجدَ طوق نجاة يُنقذنا من الغرق القادم والمُحتّم.
بيادق كثيرة ستتساقط و»طابيات» شامخة سيلحق بها الدمار، وما نعيشه اليوم في أوطاننا العربية والإسلامية هو جزء صغير من المسرحية المُعَدّة لنا سلفًا، ولن نكونَ فيها سوى «كومبارس» أو جوقة من المُهرّجين والعجزة الذين عجزوا عن نصرة الحق عندما كانوا قادرين، والناظر إلى الخريطة العربية الراهنة سيكتشف بسهولةٍ ويُسرٍ صدق ما أقول.
سقط القناع عن وجه الدولة الأقوى، ووقف «تمثال الحرية» عاريًا يهتف أسفله الأحرار المُطالبون بوقف فوري لإطلاق النار في غزة وبوقف المُساعدات العسكرية الأمريكية للاحتلال الإسرائيلي، فيما يهمس قباطنة كابينة الرئاسة في البيت الأبيض بأهمية الحفاظ على أرواح المدنيين الذين شُرّدوا وتقطعت بهم السبل بعد أن دُمرت منازلهم وهُدّمت حتى مدارس «الأونروا» التي كانوا يحتمون بها.
مرحلةٌ جديدةٌ من الحرب البربرية الدائرة في غزة هي «حرب التجويع»، حيث يضع الاحتلال العراقيل والعقبات والمتاريس في مواجهة المُساعدات الإنسانية الواردة إلى القطاع، وقد أحزنني حد البكاء رؤية عشرات الآلاف في شمال غزة وهم يتدافعون من أجل لقمة غذاء وشربة ماء، ناهيك عن العلاج الذي لا يقدر عليه أحد، فالمحنة أصبحت أكبر من قدرتنا على الرؤية عبر شاشة «الجزيرة الفضائية» التي تنقل لنا بصدق وأمانة ومهنية وقائع الفاجعة ساعة بساعة، وكأن هؤلاء البرابرة الجدد لا يشبعون من سفك الدماء وتدمير المُنشآت ومُلاحقة وهمٍ اسمه القضاء على حماس وشطبها من الخريطة السياسية في قطاع غزة.
ما يحدث الآن كشف لنا بجلاء عجز وهوان النظام العالمي الذي يفترض فيه أن يُديرَ شؤون الكرة الأرضية التي نعيش عليها، وهوان مُنظمات العمل الإنساني والحقوقي، حتى محكمة العدل الدولية أصبحت ملهاةً في يد المُحتل الإسرائيلي، وتبقى التحية موصولةً إلى شعب جنوب إفريقيا، أرض الثائر نيلسون مانديلا، والتحية لأحرار العالم الذين خرجوا في الطرقات مُطالبين بوقف الإبادة الإنسانيّة في غزة، والذين رفعوا أعلام الدولة الفلسطينيّة القادمة.