محراب العدالة …. ميثاق الزوجية بين اليسر والعسر
الإطلالة الثانية:
الأسرة نواة المجتمع، ونواة الأسرة هي: الحياة الزوجية المستقرة وحصيلتها من الذرية. ومنهج الشرع الإسلامي الحنيف هو: بناء الأسرة في ظلال السكينة النفسية الهادئة الوادعة الهانئة، والمودة والرحمة المتبادلتين بين الزوجين.
ومن سنن الله تعالى في الكون والحياة والإنسان (تقلُّب الحال). فالحياة دائرة بين المنحة والمحنة، وبين اليسر والعسر، قال الإمام الشافعي:
محن الزمان كثيرة لا تنقضي
وسروره يأتيك كالأعياد
وفي خضم بحر الحياة المائج، فقد يتبدل حال الزوجين، من الهناء إلى الجفاء، وتلك من سنن الحياة، فلا يحسبن أحد أنه (نهاية المطاف)، وأنه تصدع بنيان الحياة الزوجية، إذ قد تكون الحالةُ المتقلبة، لا تعدو عن (سحابة صيف) تتقشع بكلمة ودودة يبادر بها أحد الزوجين، إذ ليس من المحمود ولا من حسن العشرة، مسارعة الزوج إلى رمي كلمة الطلاق من غير ضرورة مُلجئة، وليس من المحمود ولا من حسن العشرة مسارعة الزوجة إلى أبواب القضاء بطلب الفرقة (الفسخ) إلا عند الضرورة البالغة للدرجة التي يستحيل معها استدامة العشرة.
حكم الطلاق بين الإباحة والخطر:
ذهب فريق من الفقهاء إلى القول بأن الطلاق (مباح) -وإن كان مُبغَضًا- واستدلوا بقوله تعالى: (لَاجُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً)، كما استدلوا بقوله تعالى: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)، إذ جاءت الآيات بصيغة الإطلاق الدالة على الإباحة، ومما يدل على الإباحة أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد طلقوا زوجاتهم.
وقد ذهب فريق آخر من الفقهاء إلى القول بأن الأصل في الطلاق هو (الحظر) إلا لحاجة، واستدلوا بالحديث الشريف: «أبغضُ الحلال إلى الله الطلاق»، كما استدلوا بالحديث الشريف: «تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الله لا يُحب الذواقين ولا الذواقات».
كما يستدلُ القائلون بالحظر بدلالة (المعقول): حيث إن الطلاق من غير حاجة يعتبر ظلمًا وبغيًا، وقال تعالى: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا).
والواضح أن المُشرع القطري يميل إلى الأخذ بالرأي القائل بأن: (الأصل في الطلاق هو الحظر) -إلا لحاجة- بل إن الإمساك مع طروء الحاجة إلى الطلاق أوْلى من الافتراق والتسريح، بدلالة قوله تعالى: (فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا).
هذه المعاني -والأدلة- التي يستمد منها أن: (الأصل في الطلاق هو الحظر) كانت حاضرة في خاطر المُشرع القطري، عند تقنين قانون الأسرة؛ إذ وضع المشرع قيودًا على إيقاع الطلاق تتسق مع تلك المعاني والأدلة، بحيث تُفضي -نسبيًا- إلى الحفاظ على آصرة الحياة الزوجية وديمومتها؛ إذ جعل المُشرع القطري الأصل في الطلاق أن يكون إيقاعُه أمام القاضي، واستثناءً يجوز إيقاعه خارج مجلس القضاء، ثم إثبات وقوعه أمام القاضي بالبينة أو الإقرار كما هو مقرر بالمادة (113) من قانون الأسرة، علمًا بأن هذا القيد المُتعلق بإيقاع الطلاق أمام القاضي، مقرون بقيد يوجب على القاضي، قبل تلقيه التصريح بالطلاق أن يحاول إصلاح ذات البين، وتحقيقًا لمقاصد المشرع فالمأمول أن يبذل القاضي جهدًا حقيقيًا في محاولة الإصلاح بين الزوجين، ولا شك أن بذل ذلك الجهد الحقيقي يتطلب إلمام القاضي بجذور ومسببات حالة جفاف مشاعر الود بين الزوجين، فذاك هو السبيل الأوحد لاختيار العلاج الفعال لحالة الزوجين. والمفترض في القاضي هو الإحساس بخطر الأمر الذي بين يديه، فلا يُسارع بإثبات وقوع الطلاق.
وفي معرض بيان هذه المعاني، قضت محكمة التمييز القطرية بأن المشرع قد: «استهدف من تدخله بهذا النص -أي النص القاضي بمحاولة الإصلاح بين الزوجين بوساطة القاضي قبل تلقيه التصريح بالطلاق- استهدف منه المشرع الحفاظ على استقرار العلاقات الأسرية قدر الإمكان، وتجنيب الزوجين -وما قد يُخلق بينهما من ذرية- مواجهة نتائج لم يكن الزوج قد قدر عواقبها حق قدرها، إذا فصم عرى الزوجية بغير مُبرر، فارتأى الشارع أنه مما يحقق هذا الاستقرار، ألا يسارع القاضي بإثبات الطلاق الذي وقع أمامه دون محاولة الإصلاح بين الزوجين». (انتهى نص حكم محكمة التمييز).
إن القيد المتعلق بسعي القاضي للإصلاح بين الزوجين، قد ورد بصيغة آمرة -جازمة- في حالة رفع الدعوى من الزوجة بطلب التطليق للضرر والشقاق (المادة 129 من قانون الأسرة)، ولا ينبغي إفراغ تلك الصيغة الوجوبية من مضمونها، بل يجب أن يستشعر القاضي خطر تلك المنازعة وأثرها على (الأمن الاجتماعي)، ودرءًا لخطرها فإن المشرع قد قصد (بذل الجهد الحقيقي الصادق لإصلاح ذات البين)، وذلك بأن يتدثر القاضي بالتأني والصبر والحكمة التي تنأى به عن التأذّي بلجاجة الخصوم، مؤمِّنًا روع الخائف، أو الحصر في الكلام – لرهبة مجلس القضاء- بما يجعله ينفذ إلى جوهر مسببات الصدع الأسري، وقادرًا على رأب الفتق.
فإن تعذر الإصلاح وباءت جهود القاضي بالفشل ولم يثبت الضرر المُدَّعَى به، واستمر الشقاق بين الزوجين، فعندئذٍ يبعث القاضي حكمين -من أهليهما- ممن يتوسم فيهما القدرة على الإصلاح.
الإطلالة الثانية:
دواعي بعث الحكمين:
دواعي بعث الحكمين هو ادعاء الزوجة ضررًا واقعًا عليها من قبل الزوج، وأن ذلك الضرر ما يستحيل معه دوام العشرة لمثلها -سواء كان ذلك الضرر بالقول كالشتم أو الإساءة أو الإهانة أمام الغير ونحو ذلك، أو كان الضرر بالفعل كالضرب والأمر بمقاطعة أهلها، أو كالخيانة الزوجية أو عدم الوفاء بحقوقها الزوجية في المعاشرة، أو بمنعها من العمل بعد رضائه على عملها عند إبرام العقد، أو بالشك في سلوكها، ونحو ذلك من الأفعال- فإن عجزت الزوجة عن إثبات الضرر المُدَّعى به، وظل الشقاق بين الزوجين قائمًا ومستمرًا، وتعذر على القاضي الإصلاح بين الزوجين، فعندئذٍ تتحقق دواعي بعث الحكمين.
معيار الضرر الذي يستحيل معه دوام العشرة:
معياران جوهريان يتعين بهما قياس الضرر الذي يستحيل معه دوام العشرة
أولهما: (معيار موضوعي) ويتمثل في عدم مشروعية القول أو الفعل الصادر من الزوج في حق زوجته.
ثانيهما: (معيار شخصي) يتعلق بحال الزوجة، وضرورة أن يبلغ تأثير الضرر عليها، إلى الدرجة التي يتعذر معها دوام العشرة لمثلها، ويتفاوت ذلك بتفاوت أحوال الناس وبيئاتهم وأعرافهم، فهنالك من ينتمي إلى بيئة لا تأبه للشتائم المقذعة مهما بلغت درجتها من الفحش، بينما هناك من ينتمي إلى بيئةٍ يكون فيها قليل الضرر إيذاءً فاحشًا في حقه بحيث يتعذر معه دوام العشرة. والفيصل في ذلك للعرف.
وقد قضت محكمة التمييز القطرية بأن: «معيار الضرر الذي لا يستطاع معه دوام العشرة ويجيز طلب التفريق هو معيار شخصي يختلف باختلاف البيئة والثقافة ومكانة المضرور في المجتمع».
وبالطبع فإن هذا المعيار يستوجب معرفة القاضي بأحوال الناس وأعرافهم وعاداتهم.
ضوابط بعث الحكمين:
يقرر القاضي بعث الحكمين بعد أن يبوء بالفشل جهده الصادق للإصلاح بين الزوجين، وبعد عجز الزوجة عن إثبات الضرر المُدَّعى به، مع استمرار حالة الشقاق بين الزوجين، هنا تأتي مرحلة إنفاذ الآية الكريمة في إجراءات الدعوى، قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) سورة النساء من الآية 35.
وقد جاءت المادة (130) من قانون الأسرة، بجعل الأصل في بعث الحكمين «أن يكونا من أهليهما ممن يُتوسم فيهما القدرة على الإصلاح، واستثناءً أجازت المادة بعث حكمين (من غير أهليهما)، ووفقًا لأحكام ذات القانون (المادة131) فإن على الحكمين تقصي أسباب الشقاق وبذل الجهد للإصلاح بين الزوجين.
الغاية من بعث الحكمين من أهليهما:
الغاية من قوله تعالى: (حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا)، أوضحتها المحكمة الدستورية المصرية -في الدعوى رقم (12) للسنة (19) ق دستورية- والمقامة بطلب الحكم بعدم دستورية المادة (7) من المرسوم بقانون رقم (25) لسنة (1929م) والتي تبين شروط الحكمين، وبأنه يجوز أن يكونا من غير أهل الزوجين.
وبتاريخ 2/1/1999 م، قضت المحكمة الدستورية برفض الدعوى، ومما جاء في أسباب حكمها مانصه: «ولئن كان اللفظ القرآني الكريم صريحًا في دلالته، على أن يكون الحكمان من أهل الزوجين، أي من ذوي قرابتهما، تقديرًا من الشارع الحكيم أن ما ينشأ من الخلاف، منذر بالفرقة بين الزوجين، يكون عادةً معلومًا لدى أهلهما، فضلًا عن أن الحكمين بحكم الوشائج الحميمة المترتبة على تلك القرابة، يكونان أدنى إلى نفس الزوجين، فلا يستحيان من الإفضاء لهما بما تنطوى عليه سرائرهما من مكنونات، يؤثران صونًا لكرامتهما، عدم البوح بها لأجانب عنهما…»
ووفقًا للمصدر التاريخي لأحكام التفريق للضرر والشقاق المقررة في قانون الأسرة القطري -وهو المذهب المالكي- فلا حرج في بعث الحكمين من غير أهل الزوجين، غير أنه يجب مراعاة أن ذلك استثناء من الأصل المقرر بالآية الكريمة، ويصار إلى الاستثناء عند عدم وجود من يصلح للتحكيم في أهل الزوجين.
وقد قضت محكمة التمييز القطرية بأنه: «..يعيَن القاضي حكمين، بشرط أن يكونا عدلين من أهل الزوجين -إن أمكن- وإلا فمن غيرهم، ممن لهم خبرة بحالتهما وقدرة على الإصلاح، والوقوف على أسباب الشقاق بين الزوجين، وبذل الجهد للإصلاح».
ومن المفترض أن المحاكم الأدنى تسترشد بالمبادئ التي تقررها محكمة التمييز، فهل ذلك الاسترشاد كائن عند بعث الحكمين مع تحري تلك الشرائط التي قضت بها محكمة التمييز أم أن العمل بخلاف ذلك؟
الإطلالة الثالثة:
خصوصية المجتمع القطري
في المجتمع القطري تتعاظم أهمية بعث الحكمين من أهليهما، (فابعثوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا)، فالأسرة القطرية مازالت محتفظه بتماسكها وبتقاليدها الموروثة المتجذرة في وجدان أفرادها، أنموذج ذلك طرائق تبادل التحية، فهي ليست حركات جوفاء بل هي وقائع نابضة بقيم ومعاني التوقير، وبالأخص حين يكون التواصل مع أهل الرأي وذوي الحكمة في العشيرة، ويقينًا فإن اختيار المحكمين الأسريين من أمثالهم، يحقق الحكمة التي من أجلها تنزل تشريع الحكمين، والتي هي إزالة أسباب الشقاق بين الزوجين وإصلاح ذات البين، علمًا بأن الحكمين من أهليهما أقدر على إنجاز ما أنيط بهما من مهام، فهما يكونان دومًا على علم مسبق بأسباب الخلاف بين الزوجين -أو بجانب منها- وهما أقدر على المكاشفة والمصارحة مع الزوجين، كما أن الزوجين يبوحان بمكنونات صدريهما بأريحيةٍ للحكمين من أهليهما، وبخاصة المرأة القطرية ذات الحياء الفطري، فهي قد تؤثر الصمت أمام الحكمين الأجنبيين، ولو أفضى ذلك إلى خسرانها لدعواها، هذا فضلًا عن أن الحكمين الأجنبيين -في الأغلب- ليست لديهما الدراية الكافية بأعراف وعادات وتقاليد أهل قطر، وبشعاب مكونات الأسر القطرية، وذاك ما يجعل تقارير الحكمين ذات طابع تجريدي، فهي في الأغلب تقارير موغلة في النمطية، شبيهة ببعضها كما لو كانت (توائم سيامية)، وذاك ما يؤدي إلى تكاثر الدفوع الموضوعية في مرحلة الطعن الاستئنافي، بالنعي بعدم بذل الحكمين القدر اللازم من الجهد الحقيقي لإصلاح ذات البين، أو بالنعي بعدم معرفة الحكمين بأعراف أهل قطر وبتقاليدهم وعاداتهم.
بيان حالتي التفريق بعوض مالي أو من غير عوض:
يصار إلى التفريق بين الزوجين للشقاق، بعد بذل القاضي جهد الوسع للإصلاح بينهما، قبل بعث الحكمين، ثم يناط بالحكمين بذل الجهد للإصلاح وبيان مصدر الإساءة التي أفضت إلى الشقاق بما أخل بمقصود الزواج في الألفة وحسن العشرة، فإن تعذر الإصلاح على الحكمين وورد تقريرهما مبينًا استحكام الشقاق واستمراره، بما يستحيل معه دوام العشرة، فعندئذ فليس ثمة بدٍ من التفريق بإحسان، فإن كان ثابتًا أن الزوجة مُحقة في دعواها -إساءة الزوج لها- وجاء تقرير الحكمين مفيدًا بأن الإساءة كلها أو أكثرها من الزوج أو كانت الإساءة منهما معًا أو جهل الحال، فعندئذٍ يفرق القاضي بينهما بإحسان من غير تعويض مالي، فالزوجة تنال العوض في تسريحها بإحسان وفي انفكاكها من بؤس النفور والجفاء والجفاف العاطفي.
أما إذا كانت الإساءة -كلها أو أكثرها- من الزوجة فيصار إلى التفريق بينهما بعوضٍ مالي لمصلحة الزوج، يقدره القاضي بما يحقق إحسان عدل القضاء.
خاتمة وتوصيات:
خلاصة هذه الدراسة: تتمثل في أمرين مُهمين:
أولهما: أن المشرع القطري -في قانون الأسرة- قد اختار الرأي القائل بأن الأصل في الطلاق هو (الحظر إلا لحاجةٍ) وأن الإمساك مع طروء الحاجة أولى من الافتراق والتسريح، وعلى ضوء ذلك جاء القانون بالإكثار من الحالات التي لا يقع فيها الطلاق، وتكرر طلب السعي للإصلاح بين الزوجين، بالصيغة التخييرية وبالصيغة الآمرة.
وثانيهما: أن الدراسة تصب في ضرورة الالتزام بالقاعدة القرآنية (فابعثوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا) بما يحقق الغاية المنشودة من تنزلها بالوحي الإلهي.
ونوصي بما يلي:
أولًا: استحداث تشريع خاص ينظم (إجراءات التقاضي في مسائل الأسرة) لخصوصية تلك الإجراءات.
ثانيًا: استحداث نظام (كشف بأسماء الخبراء- المحكمين الأسريين) من ذوي المعارف الشرعية والدراية بأعراف أهل قطر وعاداتهم وتقاليدهم -مع العناية بتلك المعايير فيمن يتم إدراجهم في الكشف من المُقيمين.
ثالثًا: نوصي أنفسنا في (القضاء الواقف) بأن نسهم مع القضاء الجالس، في بذل قصارى الجهد للإصلاح بين الزوجين المتداعيين، في أقضية الأسرة-بصفة عامة- وفي أقضية التفريق بين الزوجين بصفة خاصة، فذاك نوع من الجهاد في بابه.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
صدق الله العظيم.