كتاب الراية

اقتصاديات …. اقتصاد إسلامي مستدام

تعقيبًا على مقالتي التي نُشرت بهذه الزاوية الأربعاء الماضي بعنوان «التمويل الإسلامي»، سألني صديقٌ من النخبة المُهتمة بالقضايا الاقتصاديّة، وبصوته نبرة تهكمية – تشاؤمية، قائلًا: هل التمويل الإسلامي هو «الحل» في ظل الهيمنة الرأسمالية العالمية المُتوحشة، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، التي تستغل نفوذها المالي والسياسي عبر قروض صندوق النقد الدولي (IMF) والبنوك الربوية العالميّة التي بدورها تؤثر في مسارات الاستثمار في مُعظم الدول النامية والأقل نموًا، وتتحكم بمفصليات قراراتها الاقتصاديّة وخطط التنمية لديها، وعلى اختلاف حجم ناتجها المحلي الإجمالي (GDP) ومدى تأثيره وتأثره بآليّة النظام الاقتصادي العالمي السائد حاليًا.

أجبته طبعًا بالإيجاب، وفصّلت له كثيرًا، وأهم التفصيلات تمحورت حول أنه يُمكن للاقتصاد الإسلامي أن يكونَ نظامًا ضريبيًا اقتصاديًا مُتوازنًا مُستدامًا، يُسهم في رفع مُعدّلات النمو الاقتصادي ويُطوّر خطط التنمية لأي بلد كان إسلاميًا أو غير إسلامي، لأنه يقوم على أسس خيّرة، ومبادئ إنسانيّة وأخلاقيّة وحقوقيّة مُنصفة لكل أطياف البشر، بغض النظر عن مذاهبهم العقديّة ومدارسهم الفكريّة، طالما التزموا به كنظام في حياتهم الاقتصاديّة. كيف ولماذا؟ لأنه أولًا، جاء بتعليمات كتاب سماوي، وليس وضعيًا أو نتاج نظريات وضعها البشر، تتبدّل بتبدّل أفكارهم وأجيالهم، لذلك فهو نظام اقتصادي قائم على الفطرة الإنسانيّة السوية الثابتة لدى خالقها، لذا فهذا النظام أقدر وأرشد على تقنين رغبات واحتياجات الإنسان والمُجتمع ويوازن بينهما بمفهوم إسلامي، وعلى تحقيق الصالح العام. وليس كما يحدث حاليًا في النظم الاقتصاديّة الوضعية المُتبعة والمُتطرّفة اشتراكيًا أو رأسماليًا، لأنه نظام يجمع في مكنونه مزايا النظامين ويخلو تمامًا من عيوبهما.

وثانيًا، تأتي أهمية الاقتصاد الإسلامي المُتوازن المُتكيّف مع مُختلِف العصور والأزمنة، من خلال مبادئه وأسسه التي ترتكز على العدالة الاجتماعيّة، والتوزيع العادل للثروة، وتحفيز الإنتاج والإنفاق، وتحفيز الاستثمار المسؤول الذي يُحقق التوازن بين مصالح الأفراد والمُجتمع والوطن والأمة، بل بين الأمم قاطبة حتى تنتفي الصراعات والحروب الاقتصاديّة فيما بينها. أما فيما يتعلق بنظام التمويل الإسلامي فهو يُقدّم أشكالًا مُتعددةً من التمويل البديل، فمثلًا لا حصرًا، هناك نماذج المُرابحة والمُشاركة والمُضاربة والإجارة، وكلها تسمح بتمويل المشاريع والأعمال دون اللجوء للقروض بفائدة مُحدّدة مُسبقًا، هذه الآليات تُعزّز الشفافية المالية وتُقلل من مخاطرها الاقتصاديّة. وبالنسبة لمُقوّمات ومصادر التراكم الرأسمالي الذي يدعم الإنجازات الاقتصاديّة الضخمة على مُستوى الدولة وكذلك الإبداعات والابتكارات على مُستوى الأفراد، فيمكن توفيره من خلال عوائد الرَيْع الهيدروكربوني (نفط وغاز) وإيرادات مُنتجات الصناعة إضافة إلى موارد الزكاة السنويّة، وحصيلة الصدقات المُقننة على مدار العام والمُتاجرة وضريبة الخراج وغيرها الكثير. يمكن أن يُقسم إنفاقه على نوعين، الأول: على مشاريع استثمار لتحقيق النمو والتنمية، والآخر: مُساعدات اجتماعيّة لتحقيق العدالة الاجتماعيّة وتنمية المُجتمع بمنهج إسلامي. علينا كمُسلمين أن نؤمنَ بأهمية ومردودية حصيلة الزكاة السنويّة في الدولة الإسلاميّة (عند حولان الحول في نهاية السنة الهجريّة) وعوائدها على الفرد والمُجتمع والدولة والأمة الإسلاميّة قاطبة. حيث فرض ما نسبته 2.5% على (الأموال السائلة والمنقولة والأصول الثابتة والمُدخرات والاستثمارات) لأجل توزيعها على الفئات الأشد حاجة في المُجتمع (وقد ذكرها تفصيلًا القرآن الكريم). ما يُساهم في تقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ويمنع التناحر الفئوي والصراع الطبقي، كما يُحفّز على إعادة توزيع الثروة بطريقة عادلة تُرضي جميع أطياف المُجتمع دون ضرر أو ضرار. على صعيد آخر، تحريم الربا (الفائدة) وحظرها في التعاملات البنكيّة يُشجّع ذلك على الاستثمار والمُشاركة في المخاطر والأرباح بين المُقرض والمُستثمر وصاحب المشروع. وهذا يؤدّي بالطبع إلى التوجّه إلى الاستثمارات الإنتاجيّة الحقيقيّة التي تعود بالنفع على الوطن بأكمله، خاصة حينما تكون هذه المشاريع تتحمل المسؤولية المُجتمعيّة، وتقوم بمُمارسات تِجارية أخلاقيّة تشمل الصدق والعدالة والشفافية وتتجنّب الإضرار بالبيئة والمُجتمع.

وأخيرًا وليس آخرًا، علينا أن نُدركَ جيدًا أن مبادئ وآليات الاقتصاد الإسلامي المُتوازن المُستدام تهدف حقيقة حين الالتزام بها إلى تحقيق الرفاهيَة الشاملة للإنسان ماديًا ومعنويًا وإيمانيًا، التي توصله في نهاية المطاف – بمشيئة الله – إلى الأمن المعيشي والأمان النفسي.

خبير اقتصادي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X