مكارم الأخلاق.. الهِمَّة والهَمُّ والفرق بينهما
يقول أبو هلال العسكري: (الهمَّة هي اتساع الهم وبُعد موقعه، ولهذا يُمدح بها الإنسان، فيقال: فلان ذو همة وذو عزيمة. وأما قولهم: فلان بعيد الهمة وكبير العزيمة، فلأنَّ بعض الهمم يكون أبعد من بعض وأكبر من بعض، وحقيقة ذلك أنَّه يهتمُّ بالأمور الكبار. والهَمُّ هو الفكر في إزالة المكروه، واجتلاب المحبوب، ومنه يقال: أهمُّ بحاجتي).
درجات علو الهمة
قَسَّم شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي درجات علو الهمة على ثلاث درجات:
1- (الدرجة الأولى: همة تصون القلب عن وحشة الرغبة في الفاني، وتحمله على الرغبة في الباقي، وتصفيه من كدر التواني).
يقول ابن القيم شارحًا لكلام الهروي: (الفاني هو الدنيا وما عليها. أي: يزهد القلب فيها وفي أهلها. وسمى الرغبة فيها وحشة؛ لأنها وأهلها توحش قلوب الراغبين فيها، وقلوب الزاهدين فيها.
أما الراغبون فيها: فأرواحهم وقلوبهم في وحشة من أجسامهم. إذ فاتها ما خلقت له. فهي في وحشة لفواته. وأما الزاهدون فيها: فإنهم يرونها موحشة لهم. لأنها تحول بينهم وبين مطلوبهم ومحبوبهم. ولا شيء أوحش عند القلب، ما يحول بينه وبين مطلوبه ومحبوبه. ولذلك كان من نازع الناس أموالهم، وطلبها منهم أوحش شيء إليهم وأبغضه. وأيضًا: فالزاهدون فيها: إنما ينظرون إليها بالبصائر. والراغبون ينظرون إليها بالأبصار، فيستوحش الزاهد مما يأنس به الراغب.
كما قيل: وإذا أفاق القلب واندمل الهوى رأت القلوب ولم ترَ الأبصار.
وكذلك هذه الهمة تحمله على الرغبة في الباقي لذاته وهو الحق سبحانه والباقي بإبقائه: هو الدار الآخرة.. وأما «تُصفيه من كدر التواني». أي: تُخلصه وتُمحصه من أوساخ الفتور والتواني، الذي هو سبب الإضاعة والتفريط).
2- قال الهروي: (الدرجة الثانية: همة تورث أنفة من المُبالاة بالعِلل، والنزول على العمل، والثقة بالأمل).
الشرح: (و«العلل» هاهنا: هي علل الأعمال من رؤيتها، أو رؤية ثمراتها وإرادتها. ونحو ذلك. فإنها عندهم علل. فصاحب هذه الدرجة من الهمة: يأنف على همته، وقلبه من أن يبالي بالعلل؛ فإنَّ همته فوق ذلك. فمُبالاته بها، وفكرته فيها نزول من الهمة. وعدم هذه المُبالاة: إما لأنَّ العلل لم تحصل له؛ لأنَّ علوَّ همته حال بينه وبينها. فلا يبالي بما لم يحصل له؛ وإما لأنَّ همته وسعت مطلوبه، وعلوه يأتي على تلك العلل، ويستأصلها. فإنَّه إذا علَّق همته بما هو أعلى منها، تضمنتها الهمة العالية؛ فاندرج حكمها في حكم الهمة العالية، وهذا موضع غريب عزيز جدًّا. وما أدري قصده الشيخ أو لا؟ وأما أنفته من «النزول على العمل»: فكلام يحتاج إلى تقييد وتبيين. وهو أن العالي الهمة مطلبه فوق مطلب العمال والعباد، وأعلى منه، فهو يأنف أن ينزل من سماء مطلبه العالي، إلى مجرد العمل والعبادة، دون السفر بالقلب إلى الله؛ ليحصل له ويفوز به؛ فإنَّه طالب لربه تعالى طلبًا تامًّا بكلِّ معنى واعتبار في عمله، وعبادته ومُناجاته، ونومه ويقظته، وحركته وسكونه، وعزلته وخلطته، وسائر أحواله؛ فقد انصبغ قلبه بالتوجه إلى الله تعالى أيما صبغة. وهذا الأمر إنما يكون لأهل المحبة الصادقة؛ فهم لا يقنعون بمجرد رسوم الأعمال، ولا بالاقتصار على الطلب حال العمل فقط. وأما أنفته من «الثقة بالأمل»: فإنَّ الثقة توجب الفتور والتواني، وصاحب هذه الهمة: ليس من أهل ذلك، كيف؟ وهو طائر لا سائر).
3- قالَ الهروي: (الدرجة الثالثة: همة تتصاعد عن الأحوال والمُعاملات. وتزري بالأعواض والدرجات. وتنحو عن النعوت نحو الذات).
الشرح:
(هذه الهمة أعلى من أن يتعلقَ صاحبها بالأحوال التي هي آثار الأعمال والواردات، أو يتعلق بالمُعاملات، وليس المُراد تعطيلها. بل القيام بها مع عدم الالتفات إليها، والتعلُّق بها. ووجه صعود هذه المهمة عن هذا، ما ذكره من قوله: «تزري بالأعواض والدرجات، وتنحو عن النعوت نحو الذات»، أي: صاحبها لا يقف عند عوض ولا درجة؛ فإنَّ ذلك نزول من همته، ومطلبه أعلى من ذلك؛ فإنَّ صاحب هذه الهمة قد قصر همته على المطلب الأعلى، الذي لا شيء أعلى منه، والأعواض والدرجات دونه، وهو يعلم أنَّه إذا حصل له فهناك كل عوض ودرجة عالية. وأما نحوها نحو الذات، فيريد به: أنَّ صاحبها لا يقتصر على شهود الأفعال والأسماء والصفات، بل الذات الجامعة لمُتفرقات الأسماء والصفات والأفعال).
أ. د. محمود عبدالعزيز يوسف