المنتدى

أحاديث في المخارج من الوضع العربي المريض (1)

بقلم/ د. علي محمد فخرو:

 ما يحتاجُه الوضعُ العربي المأساوي الحالي بشدة هو الانتقالُ من فترة الانشغال المُبالغ فيه بالتحليل والنّقد، وما يتبعه من بكائيات ومُماحكات وتبادل اللوم، ومن ثم ازدياد الخلافات والصّراعات، إلى الانشغال الضروري أيضًا بتفاصيل أفكار وأفعال المخارج لإنهاء ذلك الوضع وعلاجه والخروج من الجحيم الذي يعيشه. من هنا الأهمية القصوى لتوعية شابات وشباب الأمة بتفاصيل واحد من تلك المخارج الكُبرى الموجود في المشروع الأيديولوجي العروبي الشامل: المشروع النهضوي العربي.

ولقد ألححنا على استعمال كلمة أيديولوجية لأننا نعتقد أن المطلوب هو نظرة شاملة مُتكاملة لإحداث تغييرات مُجتمعيّة جذريّة شاملة من خلال أفكار وأفعال مُتناسقة مُتعاضدة مبنيّة على العلم والقيم والعقلانيّة، وليس إحداث إصلاحات جزئية مُتناثرة مُستقلة هنا وهناك لا تؤدّي إلى تلك الصورة التغييرية المُجتمعيّة الجذريّة الكُبرى التي تنشدها الملايين لإخراج الأمة من تخلفها التاريخي الحالي.

ذلك أن موجات الهجمة الاستعماريّة الخارجيّة والصهيونيّة المُتعدّدة الوجوه والمُستويات على مُختلِف أجزاء الوطن العربي، وأن مواجهتها من قبل داخل عربي مُمزّق مُتخلف ضعيف، يتطلبان بالضرورة وجود مشروع نضالي عروبي وحدوي جماهيري مُقاوم يحمل كل عناصر القوة والإرادة لتجييش الملايين، وعلى الأخص الشباب، من ورائه.

لنبدأ بعرض المُكوّن الأول من هذه الأيديولوجية، مصدر وسرّ استمراريتها وقوتها وعقلانيتها: الوَحْدَة العربية.

وبعيدًا عن التباينات والخلافات الكثيرة حول تعاريف ومُكوّنات المُجتمع والدولة والأمة التي تزخر بها قواميس وموسوعات السياسة، والتي في الغالب لا تُقدّم ولا تؤخّر ولا تزيد عن مُناقشات لُغويّة فنيّة وقانونيّة، فإن الجانب الحاسم في هذا الموضوع هو نسبة وحجم وجدية تواجد رغبة وإرادة الأغلبية من العرب لتكوين أمتهم ومُجتمعهم ودولتهم. أما التفاصيل القيميّة والقانونيّة والتنظيميّة لتلك الكِيانات فإنها تأتي بعد ذلك على أي حال وتتبدّل بتبدّل الأزمنة. ولذلك فالإجابة على الأسئلة الأساسيّة المُتعلقة بالاقتناع بضرورة أو عدم ضرورة قيام نوع من الوَحْدة العربية هي المُنطلق للنظر في هذا الشعار الأيديولوجي العروبي. وكلما كانت الأسئلة من إملاءات الواقع وضرورات المرحلة التاريخيّة كانت أصدق وأهم من الأسئلة النظريّة التي لا تهم في الغالب سوى الأخصّائيين أو أصحاب ثرثرات دواوين السياسة. لنطرح السؤال: لو أن كِيانًا توافقيًا وحدويًا عربيًا واحدًا، مهما كانت مُسمّياته وطرائق تكوينه، تحقق، وبشرط عدم وجود أية إملاءات أو توجيهات خارجيّة غير عربيّة من أي نوع أو درجة، فهل كنا جميعًا، وبدون استثناء، سنبقى في وضعنا الحالي الآتي: اقتصادات صغيرة مُعتمدة على منّة وابتزازات وشروط تعجيزيّة من هذه الدولة أو الكتلة الخارجيّة الكبيرة أو تلك، وأسواق صغيرة محدودة تُعرقل شتى أنواع الإنتاج والتطوير في التجارة العربيّة، وأمن عسكري مُهدّد من قِبل كل أنواع الأعداء ومُعتمد كليًا على ما تتفضل ببيعه الدول المُصنّعة بشروطها وإملاءاتها التي تجعل الاستقلال الوطني والقومي ألعوبةً في يد الخارج، وعدم قدرة على الدخول في مُنافسات تطوير العلوم والتكنولوجيا بسبب صغر حجم العمالة المُدربة أو العالمة في هذا القُطر أو ذاك، وغياب مُفجع للأمن الغذائي والمائي بسبب هيمنة الخارج على مجاري الأنهار والاعتماد في ذلك على ما تسمح به القوى الرّاضية عنا والمُهيمنة على قراراتنا؟

لكننا، مع الأسف، سمحنا لكل منا أن يبقى في هذا الوضع الضعيف المُهدّد أو ذاك. وحتى بعض المُحاولات المحدودة للخروج من بعضها، كما حاولنا مثلًا، من بناء وَحْدة اقتصاديّة عربيّة منذ عام 1957، أو كما حاولنا، من بناء صناعة حربيّة عربيّة أو بناء منظومة أمنيّة، وغيرها كثير، ووضعناها في الأدراج، ودخل كل منا في الضياع والتيه والاعتقاد الخاطئ بأن باستطاعة هذا أو ذاك أن يدخلَ العصر بكل مُنافساته وتعقيداته ومخاطره مُعتمدًا على نفسه ودون حاجة لبقية العرب الآخرين.. حتى بعض المُحاولات فشلت إلى حدٍ كبيرٍ. وصف أحدهم أمة العرب بأنها موحّدة في معنوياتها، في لُغتها وثقافتها وأحلامها وتاريخها، ولكنها مُجزّأة في مادياتها، مثل تجزئتها الجغرافية وتفرّقها في ساحات الاقتصاد والأمن والعلوم وغيرها.

يهمنا أن نُرسّخَ في أذهان شباب المُستقبل أن نجاح أو فشل أحلام مُستقبلهم سيعتمدان على مدى ونوع تحقق هذا الشعار العروبي، وَحْدة الأمة والوطن، تحققه في الواقع مع غيره من شعارات هذا المشروع النهضوي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X