المنتدى

مستقبل إسرائيل بين “علياء” و”يورديم”

بقلم / د. محمد نشطاوي

مع اندلاع الحرب الإسرائيليّة على غزة، تسود مخاوف إسرائيليّة حقيقيّة من تزايد أعداد اليهود الفارّين من الأراضي المُحتلة، لا سيما أن أعدادهم كبيرة وغير مسبوقة، إذ بحسب مصدر حكومي إسرائيلي، فإن نحو 370 ألف إسرائيلي غادروا منذ بَدء الحرب في 7 أكتوبر، ولم يتضح ما إذا كانوا سيعودون أم لا، وأن أكثر من 230 ألف إسرائيلي غادروا البلاد فقط في الفترة بين 7 ونهاية شهر أكتوبر، ونحو 140 ألفًا آخرين غادروا في شهر نوفمبر.

ويُضاف هذا العدد إلى 470 ألف إسرائيلي كانوا خارج البلاد في أثناء اندلاع الحرب، ولم يعودوا إلى الآن، لا سيما أن فكرة الهجرة تنتشر بشكل واسع في المُجتمع الإسرائيلي، ما قد يُمثل ضربةً مُزدوجةً لإسرائيل، إذ يعمل من جهةٍ على إضعاف بنيتها الديموغرافية التي تمّت تغذيتها بموجات هجرة طوعيّة وقسريّة بشكل مُستمر، ويدحض من جهة أخرى فكرة الملاذ الآمن لليهود، خاصة أن بن غوريون مؤسس إسرائيل، وعددًا من قادتها ربطوا وجودها بالهجرة الواسعة إليها، لكن طوفان الهجرة العكسية في عهد نتنياهو يُهدّد بقاءها.

وهكذا، ورغم كل الإغراءات التي تُقدّمها الحكومات الإسرائيلية، من مال وسكن وعمل وترفيه لليهود مُقابل البقاء واحتلال الأراضي الفلسطينيّة، فإن الإحصائيات بدأت تُسجل أرقامًا مُخيفةً لهروب اليهود من أرض فلسطين، في تهديد مُباشر لحُلم “المشروع الصهيوني الكبير”، لا سيما بسبب تدهور الأوضاع الاقتصاديّة وغياب المُساواة بين مُكوّنات المُجتمع الإسرائيلي، وسيطرة الفكر اليميني المُتطرّف والعنصري، وتصاعد عمليات المُقاومة الفلسطينيّة، وخيبة الأمل بسبب تعثُّر التسوية مع الفلسطينيين.

وفي هذا الصدد، تحدثت البيانات الصادرة عن هيئة السكان والهجرة الإسرائيليّة على أن ما يقرب من نصف مليون إسرائيلي فرّوا من إسرائيل منذ 7 أكتوبر الماضي، بحسب صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، ما يقضي على أحلام الحركة الصهيونيّة التي عملت على جعل الهجرة إلى فلسطين هدفًا رئيسًا لنزعتها القومية اليهودية، التي تعتبر تدفق اليهود أمرًا حيويًا لبقاء الدولة العبرية، وتعزيز قوتها الديموغرافية والاقتصاديّة والعسكريّة.

كما أن الهزيمتين الاستراتيجية والتكتيكية للجيش الإسرائيلي في غزة، من شأنها فتح بوابات الهجرة العكسيّة للإسرائيليين على غرار ما حدث بعد حرب أكتوبر 1973، لا سيما أن المزيد من الإسرائيليين غير الراضين عن الظروف السياسيّة والاقتصاديّة في بلادهم، يُريدون الهجرة في جميع أنحاء العالم ويجدون في الخارج ملجأ لهم.

وبالتالي، أصبح عدد مُتزايد من الإسرائيليين يُهاجر إلى الخارج في أغلب الأحيان إلى أوروبا، وهم في الغالب مُعارضون لسياسات بنيامين نتنياهو، ويُشاركون في المُظاهرات الاحتجاجيّة، ويتأسفون لحالة الديمقراطية في إسرائيل. وحسبما ذكرت صحيفة هآرتس اليوميّة، فإن “وراء كل ذلك هناك طبقة من الألم، إذ ظنوا أن بإمكانهم الاستلقاء على أمجادهم بعد ألفي عام، لكنهم الآن يلتقطون عصا المُسافر مرة أخرى”.

وإذا كانت التركيبة السكانيّة لإسرائيل قد تقوَّت بالمليون يهودي الذين حطُّوا رحالهم في الأراضي المُحتلة على مدار التسعينيات من القرن بعد فرارهم من دول الاتحاد السوفييتي، إلا أن هذا العدد الكبير من المُهاجرين أحدث تغييرًا مُهمًا في التركيبة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة لإسرائيل، إذ عمل على تغيير دفة الحكم نحو اليمين واليمين المُتطرّف، وأفرز أحزابًا، ومن ثمة حكومات أكثر تطرفًا، مُتسبِّبًا للمُفارقة في تفاقم ظاهرة الهجرة العكسيّة من إسرائيل، حيث يُغادر المُهاجرون الجدد “دولتهم” التي طالما تفاخرت بقدرتها على استقطابهم واحتوائهم.

وهكذا وفي أعقاب انتخابات نوفمبر الماضي، التي أظهرت حصول مُعسكر أقصى اليمين بزعامة بنيامين نتنياهو على أغلبية مقاعد الكنيست، التي تمخَّض عنها تنصيب الحكومة الأكثر تطرّفًا في تاريخ إسرائيل، تزايدت نسبة طلبات الهجرة لدول الاتحاد الأوروبي بشكل عام، وجعل من هذه الهجرة اليهودية المُعاكسة ذات تأثير كبير وخطير على الوجود الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين، ما يُشكّل مسًا بأحد الأسس القوية التي تأسست عليها دولة الاحتلال، كما قد تكون له تداعيات مُهمة على مُستقبل الوجود اليهودي في فلسطين التاريخيّة.

وإذا كانت إسرائيل قد تمَّ بناؤها على موجات مُتتالية من الهجرات اليهودية، واعتبار ذلك نوعًا من “الصعود” أو “الارتقاء الروحي” (علياء بالعبرية)، وهو مُصطلح يُشير إلى عملية الهجرة إلى إسرائيل من قِبل الشخص اليهودي، فإنه مع حركة “لنغادر البلاد معًا” الإسرائيلية التي تُخطط لنقل آلاف اليهود الإسرائيليين إلى الولايات المُتحدة، أصبح يتم الحديث عن “الانحدار” أو “النزول”، (يورديم بالعبرية)، لوصف اليهود الذين يُغادرون الدولة اليهوديّة، بعد أن هاجروا إليها في وقت سابق.

وبالتالي، فإن جرائم الاستيطان والتهويد ومُصادرة الأراضي وعمليات تدمير المنازل والمُمتلكات الخاصة والعامة، والنزعة الدينيّة المُتطرّفة، وسرقة الحقوق والأراضي الفلسطينيّة، والانتهاكات الجسيمة لقواعد وأحكام القانون الدولي عمومًا والقانون الدولي الإنساني على وجه الخصوص عبر الاستخدام المُفرط للقوة، لم تُحقق النتائج المطلوبة لدعم المشروع “الصهيوني الكبير” بالأغلبية اليهوديّة، لأن الوجود الفلسطيني مُتأصّل ومُلتصق بجذوره وباقٍ ليُدافعَ عن هُويته، في حين بدأ اليهود يسلكون طريقَ الهجرة، للبحث عن هُوية وبلد آخر ينتمون إليه.

 

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X