
المزاحُ المنهيُّ عنه والمذموم منه هو المداومة عليه والإفراط فيه، فأما المداومة فلأنه اشتغال باللعب والهزل. والإفراط فيه فإنه يورث كثرة الضحك، ويُسقط المَهابة والوقار. أما ما يخلو عن هذه الأمور فلا يُذم. كما ورد عن النبي- صلى الله عليه وسلم-: «أنه كان يمزح ولا يقول إلا حقًا» رواه البخاري في صحيحه وأبو داود بإسناد صحيح، ومن الغلط العظيم أن يُتخذ المزاحُ حرفةً يواظب عليه ويفرط فيه، فإن كنت تقدر على أن تمزح ولا تقول إلا حقًّا ولا تؤذي قلبًا فلا حرج.
ولكي لا يقع أحدُنا في هذا المطب الخطير، حُذِّرنا من كثرة المزاح، وذلك لعواقبه الوخيمة، قال ابن أبي الدنيا – رحمه الله-: واعلم -عبدَالله-: أن للمزاح إزاحة عن الحقوق، ومخرجًا إلى القطيعة والعقوق، يصِم المازح ويؤذي الممازَح. فوصمة المازح أن يُذهب عنه الهيبة والبهاء، ويجرِّئ عليه الغوغاء والسفهاء.
وأما أذية الممازَح فلأنه معقوق بقول كريه، وفعل مُمضٍّ إن أمسك عنه أحزن قلبَه، وإن قابل عليه جانب أدبَه، فحق على العاقل أن يتقيه وينزه نفسه عن وصمة مساوئه. وقال عمر بن عبد العزيز- رحمه الله-: اتقوا المزاح فإنها حمقة تورث ضغينة، وقال بعض الحكماء: إنما المزاح سِباب إلا أن صاحبه يضحك، وقيل: إنما سمي المزاح مزاحًا؛ لأنه يزيح عن الحق، وقال إبراهيم النخعي: المزاح من سخف أو بطر، وقيل في منثور الحكم: المزاح يأكل الهيبة كما تأكل النار الحطب، وقال بعض الحكماء: من كثر مزاحه زالت هيبته، ومن ذكر خلافه طابت غيبته، وقال بعض البلغاء: من قلّ عقله كثر هزله، وذكر خالد بن صفوان المزاح، فقالَ: يصك أحدكم صاحبه بأشد من الجندل، وينشقه أحرق من الخردل، ويفرغ عليه أحر من المِرجل، ثم يقول: إنما كنت أمازحك، وقال بعض الحكماء: خير المزاح لا يُنال، وشره لا يُقال. فالعاقل يتوخّى بمزاحه إحدى حالتَين لا ثالث لهما:
إحداهما: إيناس المصاحبين والتودد إلى المخالطين، وهذا يكون بما أنس من جميل القول، وبسط من مستحسن الفعل. وقد قال سعيد بن العاص لابنه: اقتصد في مزاحك فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرئ عليك السفهاء، وإن التقصير فيه يفض عنك المؤانسين، ويوحش منك المصاحبين. والحالة الثانية: أن ينفي بالمزاح ما طرأ عليه من سأم، وأحدث به من همّ، فقد قيل: لا بد للمصدور أن ينفث، وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يمزح على هذا الوجه. والمقصود أن المزاح ينبغي عدم الإكثار منه والإسفاف فيه، أما ماعدا ذلك فيحسن لما فيه من إيناس الجليس وإزالة الوحشة ونفي الملل والسآمة، وإنما المزاح في الكلام كالملح في الطعام، إن عدم أو زاد على الحد فهو مذموم.