بقلم/ فيصل مكرم:
في كل عام هجري هناك شهر يعيد إلينا الكثير والكثير من الذكريات التي لا يمكن أن تمحوها زحمة الحياة بكل جبروت متطلباتها اليومية وعنفوان تقلباتها.. هو شهر رمضان المبارك الذي ونحن صغار ننتظر قدومه على أحر من الجمر، في قريتنا البهية وعلى دروبها الضيقة بين دورها وبيوتها كنا نقضي ساعات النهار بانتظار أذان المغرب لكي نعيش لحظة الأذان الروحانية ونفطر مع الصائمين بشراهة وكأننا لا نقل عنهم عمرًا ولا إدراكًا لما يعنيه هذا الشهر بالنسبة لكل مسلم بل وللأمة الإسلامية، كنا نلعب ونلهو في أزقة ودروب قريتنا وساحاتها الصغيرة وكأننا نستعيد ذكريات عام مضى ونستعد لغدٍ رمضاني جديد، لم نكن في طفولتنا نتخلف عن الصلوات الخمس في مجد قريتنا العامرة فالكل شاهد عليك إن تغيبت، بدءًا من أبيك وأمك وأترابك والأستاذ المعلم الذي يلقننا الدروس في مكتب تابع للمسجد، وليس الأمر يقتصر على أيام شهر رمضان فقط بل خلال كل أيام السنة مع ما يمكن استثناؤه بوسائلنا وأعذارنا وشيء من أكاذيبنا الطفولية التي لا تذهب في مغازيها مذهب الساسة وحالبي الأوطان ومدمريها، وفي قريتي العامرة بأهلها وبتاريخها وموروثها الحضاري باعتبارها قرية بُنيت على حصن فوق ربوة، ودورها تعانق السحاب كناطحات أزليات وتكسر الرياح العاتية بثبات وتعزف تراتيل الربيع مع نسائمه الحلوة وعبيره الأخاذ، كانت الحياة اليومية مختصرة ونقية وعفوية وكأن معلمنا هو من يتوجب علينا تحاشي غضبه وعدم التورط بأي خطأ يستلزم عقوبة من عصاه الممشوقة الخفيفة بيده والثقيلة ألمًا على أجسادنا الغضة التي لم يسكنها غبار المدينة ولا تقلبات الأزمنة المليئة بالأدكنة والأوبئة العابرة بين ميادينها وشوارعها وضوضائها وازدحامها بأناس لا يعرفون بعضهم بعضًا ولا يبالون بك مَن تكون أو ما أنت عليه، الفرق كبير بين نقاء وصفاء القرية وبين ضوضاء المدينة وغربتها ودسائسها، وبين رمضان القرية ودخان خبزها يصعد من مداخل أجبيتها فتشعر بطعم ورائحة القمح والشعير والذُرة التي تأتي من حقولنا ولا تعبر البحر لتصل إلينا بلا طعم ولا رائحة، وفي رمضان أمهاتنا اللائي يملكن بقرات في القرية يستنفرن مَن في البيت لكي يتوفر اللبن الرائب لكل من يطلبه من جيران القرية فالنساء أمهاتنا والبنات أخوات لنا يجمعنا الحب والإيثار.
كانت موائد رمضان في قريتنا مثل كل قرى اليمن وريفه العاطر عامرة بما يتوفر من مأكولات ألفناها كل أيام السنة ولكن في رمضان لها مذاق مختلف وعلى عكس المدينة لابذخ في القرية ولا فقراء ينامون جياعًا ولا يأوون إلى فراشهم بأوجاعهم فالناس كلهم شركاء في السراء والضراء وحتى خلافاتهم بسيطة كبساطتهم ولا تأخذ بعدًا عدائيًا، في رمضان قريتنا كانت لنا حكايات وذكريات لا تفارقنا، وحين انتقلنا إلى المدينة تركناها خلفنا هناك حيث عشناها وترعرعت معنا، غير أن صخب المدينة وصيرورتها بزمنها المختلف وأناسها المختلفين وحيث يتصارع المتنافسون والمتآمرون على بعضهم، وحيث يغادر الوطن الخائفون من بطش يترصدهم وحروب تحرق وطنهم، وفساد ومفسدون يأكلون من سنابل رمضان اليوم ما قد يبقيهم أحياء في عجاف رمضان الآتية لا ريب، في المدينة ثمة عوالم تأكل بعضها وثمة حرائق مشتعلة لا صلة لها برمضان القرية حيث كانت تغترف منه طفولتنا الذكريات والأحلام بنقاء لا يشبهه خطب من خطوب المدينة المفزعة، وحين اليأس وفي البأس نعود إلى حيث كانت ذكرياتنا نقية وأحلامنا وردية ورمضاننا عامرًا بالخير لا تشوبه نواميس السياسة ولا طغاة ولا صراعات الأنداد ولا حروب تسخن جراح الوطن وتدميه، ولا أزقة قريبة من مقابر الضحايا والجياع النائمين نومًا أبديًا على غفلة من زمن جميل مضى وزمن حاضر مفجع وزمن مجهول قادم وتبقى قريتنا مأوانا وملاذنا إلى رمضان الحب والخير والصدق في العبادة والحرص على الفوز برضا الله وطمأنينة النفس.. وكل عام وأنتم بألف خير.
صحفي وكاتب يمني