القاهرة – قنا :

في شهر رمضان المبارك، يتسارع المصريون في تقديم كافة أعمال الخير التي تتجدد عبر مختلف العصور، في أجواء يسودها الترابط والتكافل الاجتماعي، وذلك بدءا من موائد الرحمن، مرورا بتوزيع وجبات الطعام على الفقراء والمساكين، والمارة في الشوارع وقت الإفطار، ووصولا إلى إعداد /كرتونة رمضان/ لإيصالها إلى المتعففين في بيوتهم.
فعلى مدار العصور التاريخية المتعاقبة، شهدت أعمال الخير خلال شهر رمضان المبارك تطورا كبيرا منذ إطلاق موائد الرحمن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومرورا بالدولة الطولونية في مصر، ثم الإخشيدية، ثم الدولة الفاطمية التي استحدثت مظاهر الاحتفالات الدينية في شهر رمضان المبارك، وصولا إلى الأشكال المتعددة لإطعام الفقراء والمحتاجين وعابري السبيل في العصر الحالي.


وحول التطور الذي شهدته أعمال الخير في رمضان، سلطت وكالة الأنباء القطرية /قنا/ الضوء على مراحل هذا التجدد وأثره الإيجابي على المجتمع، وذلك من خلال عدد من المتخصصين في المجالات التاريخية والاجتماعية والدينية، حيث تطرق الدكتور خلف عبدالعظيم الميري، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس، إلى بدايات نشأة أعمال الخير ومحطات تجددها عبر التاريخ قبل وبعد وصولها إلى مصر، مشيرا في حديثه لـ /قنا/ إلى أنها مستمدة في الأساس من القرآن الكريم والسنة المطهرة، قبل أن تتطور تباعا وفق ظروف الزمان والمكان تبعا للبيئات الإسلامية المختلفة، حيث أرسى النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- هذا المفهوم في إكرام الضيوف عندما استقبل وهو في المدينة المنورة وفدا من الطائف في شهر رمضان المبارك في السنة التاسعة بعد الهجرة لإعلان إسلامهم، فطلب من بلال بن رباح -رضي الله عنه- إعداد مائدة لهم في الإفطار والسحور، ثم انتهج الخلفاء الراشدون هذا النهج فيما بعد.
ويضيف الدكتور خلف عبدالعظيم الميري أن كثيرا من المؤرخين يشيرون إلى أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنشأ فيما بعد /دار الضيافة/ كي يفطر فيها الصائمون الفقراء والمساكين والمحتاجون في عام الرمادة الذي شهد مجاعة كبرى، حيث أصبحت هذه الظروف دافعا لاستمرار هذا النوع من أعمال الخير والبر، قبل أن يبدأ في الظهور في مصر على أيدي الفقيه المعروف الإمام الليث بن سعد (94 – 175هـ/713 – 791م)، الذي عرف عنه الجود والكرم، حيث كان هو أول من أقام موائد الرحمن خلال شهر رمضان في مصر، وكان ينفق عليها المال الكثير، ويوفر لها أشهى الأطعمة، وصنوفا من الحلويات، ومنها نوع من الهريسة عرف باسمه /هريسة الليث/.
وعلى الصعيد الرسمي، اقترن ظهور موائد الرحمن لدى البعض بالدولة الطولونية التي أسسها أحمد بن طولون (254 – 270هـ/868 – 884م)، بحسب الدكتور خلف عبدالعظيم الميري، الذي أوضح أن ابن طولون أقام مائدة كبيرة في شهر رمضان المبارك، وألقى خطبة شهيرة في الأمراء والتجار والأعيان وكبار رجال الدولة قائلا: “إنني جامعكم حول هذه الأسمطة (جمع سماط) لأعلمكم طريق البر بالناس، وأنا أعلم أنكم لستم في حاجة إلى ما أعده لكم من طعام وشراب، لكنني وجدتكم قد أغفلتم ما أحببت أن تفهموه من واجب البر عليكم في رمضان، ولذلك فإنني آمركم أن تفتحوا بيوتكم وتمدوا موائدكم وتهيئوها بأحسن ما ترغبونه لأنفسكم فيتذوقها الفقير المحروم”.
ويشير الميري إلى أن إقامة موائد الرحمن توالت بعد ذلك في عهد الدولة الإخشيدية، مرورا بالدولة الفاطمية التي اتسعت خلالها هذه الموائد، حيث كان المعز لدين الله الفاطمي (358 – 365هـ/ 969 – 975 م) أول الخلفاء الفاطميين في مصر الذي أقام مائدة في شهر رمضان لكي يفطر عليها أهل جامع عمرو بن العاص، وكان يقوم بإعداد موائد ضخمة ويخرج من قصره 1100 قدر (طبق) بها جميع ألوان الطعام لكي توزع على الفقراء والمساكين والصائمين، واستمر هذا النهج في عهد ابنه الخليفة الفاطمي العزيز بالله (365 – 386هـ /975 – 996م) الذي أسس أيضا /دار الفطرة/، أي الإفطار، وكان يقيم موائد للإفطار في جامع عمرو بن العاص، كما أقام الفاطميون أيضا موائد عرفت باسم /السماط/، (وهي نوع من موائد الطعام يوضع عليه اللحم، وجاء منها مسمى المسمط الذي يعد اللحوم ويقوم بطهيها)، حيث إن بعض هذه الأماكن ما زال موجودا حتى الآن في مناطق بمدينة القاهرة، مثل السيدة زينب والناصرية.
واستمر هذا النهج بعد ذلك تباعا في عهد الدولة الأيوبية، كما ظلت فكرة موائد الرحمن في عهد المماليك قائمة، بحسب الدكتور خلف عبد العظيم الميري، الذي أشار في هذا الصدد إلى أن السلطان حسن كان يقدم كل يوم من أيام رمضان 117 ذبيحة، كما سن الملك الظاهر بيبرس سنة طيبة وهي توزيع عدد من أحمال الدقيق والسكر والمكسرات ولحم الضأن على الفقراء، حتى يتمكنوا من تناول الطعام في بيوتهم، قبل أن تستمر هذه الموائد في عهد الدولة العثمانية تحت اسم /الموائد السلطانية/، وصولا للعهد الملكي، حيث عرفت في عهد الملك فاروق بـ /الموائد الملكية/، ثم بدأ تنظيمها بجوار الأزهر الشريف بعد تحويل البلاد إلى النظام الجمهوري منتصف القرن الماضي، ومن ثم انتشرت بعد ذلك في سائر أحياء القاهرة الكبرى والأقاليم.
وحول ما وصلت إليه أعمال الخير في العصر الحالي خلال شهر رمضان المبارك بمصر، تقول الدكتورة هالة منصور أستاذ علم الاجتماع بجامعة بنها، لوكالة الأنباء القطرية /قنا/، إن موائد الرحمن ظاهرة تم استحداثها بشكلها الحالي في المجتمع المصري منذ أكثر من عشرين عاما، فعلى الرغم من كونها كانت قديمة، فإنها عرفت بأسماء أخرى وأشكال مختلفة، وذلك قبل أن تكتسب أعمال الخير أنماطا جديدة سواء من خلال توزيع الطعام على المارة في الشوارع وقت الإفطار، أو إيصالها إلى بيوت الفقراء والمحتاجين المتعففين لصون كرامتهم، عبر ما يسمى بـ /شنطة رمضان/ أو /كرتونة رمضان/، والتي تحوي أصنافا مختلفة من المواد الغذائية والتمر والفواكه المجففة، التي تساعدهم على إعداد وجبات الإفطار والسحور في منازلهم على مدار شهر رمضان المبارك.
وتوضح الدكتورة هالة منصور، في هذا الصدد، أن موائد الرحمن تبلورت بشكلها الحالي المتعارف عليه منذ مطلع القرن الحالي، وأصبحت جزءا أصيلا من أنواع التضامن الاجتماعي المتعارف عليه في المجتمع المصري، في ظاهرة إيجابية تعكس روح التكافل والتآزر، إلى جانب اكتسابها بعدا مهما يتمثل في صون كرامة مرتاديها أيضا، حيث لم تعد قاصرة على دعوة الفقراء والمحتاجين فقط، وإنما بات يدعى إليها الجميع سواء كانوا أغنياء أم فقراء، بما يخلق أجواء من الألفة والمودة التي تزيد روح التواضع والإخاء، وترتكز عليها مبادئ الإسلام ورسالته، خاصة في شهر رمضان المبارك.
وفي هذا السياق، يقول الدكتور نظير عياد الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، لوكالة الأنباء القطرية /قنا/، إن موائد الرحمن وإفطار الصائمين بشتى الوسائل الممكنة من الأعمال الطيبة التي تخلق بين الجميع جوا من البهجة والسرور والشعور بالأخوة الحقيقية الصادقة، بما يؤلف القلوب ويغرس التضامن بين الناس، فالمؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
ويضيف الدكتور نظير عياد أن ما يشهده شهر رمضان المبارك من إقامة للموائد وتوزيع للطعام على الفقراء هو حالة إيجابية تطورت عبر التاريخ الإسلامي العريق، لتعكس روح التكافل المجتمعي وتحقق الكثير من المعاني الحسنة، حيث إنها تعد بابا مهما من أبواب الخير، خاصة أن إطعام الطعام من الأعمال التي رفع الإسلام بها درجات القائمين عليها، مؤكدا أن المجتمعات الإسلامية في أمس الحاجة إلى تكثيف هذا النوع من أعمال الخير، وعدم قصره على شهر رمضان الفضيل، حيث إن هذه الأعمال وإن كانت تضاعف في شهر الخير، فإن من يقوم بها في غفلة الناس عنها لا شك أن له ثوابا عظيما وأجرا كبيرا من رب العالمين، ومن ثم فإن هذا الشهر المبارك بمثابة فرصة حقيقية لفتح أبواب خير لا تنقطع طول العام لمساعدة الفقراء والمحتاجين.