الجغرافيا هي فعل الله في المكان، وقدر من أقداره، والتاريخ هو تفاعل الإنسان في الزمان والمكان… أو هكذا قيل.
في التاريخ مكان خاص لأسماء شخصيات ما إن تسمع عنها حتى تشعر كأنك أمام أساطير حية. شخصيات من فرط إعجابك بها تتمنى لو أنك وجدت في الفترة التي عاشوا فيها، ولو كذَرَّةِ غبار لتكون شاهدًا على ملاحم غيرت مسارات أمم.
في الجغرافيا، هناك مناطق أكثر حظًا من غيرها، وقدرها أن كانت ملعبًا لتاريخ عظيم، ومنطقتنا العربية كانت واحدة من هذه الرقع التي لم تهدأ على مر العصور.. كيف تهدأ وفيها مهد الديانات وأولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى النبي عليه الصلاة والسلام.. القدس.
لم أَزُر القدس يومًا، لكني زرت أماكن عديدة كانت أحيانًا تقودني للقدس.. ذلك الحاضر الغائب في وجدان كل عربي ومسلم.. وكل مغربي لاعتبارات سياسية خاصة مؤخرًا.
للمغاربة باب في القدس ليدخلوا منه للمسجد الأقصى. وكان للمغاربة في عشرينيات القرن الماضي حضور في كل الأحداث المهمة التي شهدتها أرض فلسطين. فكانوا أول من عايشوا إرهاصات الصراع، عند حائط البراق المجاور لحارتهم في القدس، والذي أَعْقَبَته أحداث ثورة البراق (1929). لم يتأخر المغاربة عن دعم المجاهد عز الدين القسام حين أطلق الشرارة الأولى للثورة الفلسطينية الكبرى في العام 1935، وتشهد الوثائق التاريخية كيف تكاتفت القبائل في المغرب خصوصا قبائل الأمازيغ شمال المغرب (جبال الريف) لجمع الأموال من أجل دعم ثورة القسام. أما عندما باتت الحرب وشيكة، كان الأمير-كما تصفه كتب التاريخ- محمد بن عبد الكريم الخطابي في طليعة الذين نادَوا بالجهاد ومقاومة الاحتلال، فلبى النداء أهل شمال إفريقيا من خلال تأسيس الهيئة العليا لإعانة فلسطين سنة 1948، و كانوا حينها تحت نير الاستعمار، و مع ذلك عملت اللجنة على جمع التبرعات لصالح فلسطين واستطاعوا رغم كل الصعوبات أن يجمعوا ملايين الفرنكات لدعم المقاتلين هناك. إذا عدنا بالتاريخ قبل ثمانية قرون من هذه الفترة، سنَجِد أن الرابط بين المشرق والمغرب ليس جديدًا، فأبناء شمال إفريقيا شكلوا ربع جيش صلاح الدين الأيوبي عندما حرر القدس وفلسطين في العام 1187، حتى إنه ولشدة بأسهم في القتال، قال عنهم عند تحرير المسجد الأقصى: «أَسْكَنت هنا من يَثْبِتون في البر ويبطشون في البحر، وخير من يُؤتَمَنون على المسجد الأقصى وعلى هذه المدينة». وتكررت مشاركة المغاربة في النضال في فلسطين عام 1948، وقاتلوا بعدد تجاوز5000 مجاهد ضد المليشيات الصهيونية المُحتلة، وتوالت المشاركات بمتطوعين فرديين التحقوا بصفوف المقاومة الفلسطينية على مر العقود الماضية. وكانت ثورة الريف التي قادها الأمير «محمد بن عبد الكريم الخطابي» مُلهمة لأهل فلسطين في المضي نحو تحرير الأرض المُقدسة. للأمير مكانة خاصة في وجدان المغاربة، هو الثائر المجاهد المحرر الذي ألهم حروب تحرير أخرى كانت قد بدأت تتفجر ضد الحركات الاستعمارية في إفريقيا وأمريكا وآسيا، وقد وقفتُ بنفسي على تَبِعات واحدة من أهم التجارب التحررية في جنوب شرق آسيا التي خلدت اسمه كمجاهد فريد من نوعه.
للمغاربة باب في هانوي، يسمى كمثيله في القدس «باب المغاربة»، ليخلد ذكرى الجنود المغاربة الذين ساهموا في حرب تحرير فيتنام.
يُحْكى أن «الأمير» الخطابي هو الذي جعل «هو تشي منه» يغادر باريس، التي كان ناشطًا داخل الحركة الاشتراكيّة فيها، ليلتحق بحرب التحرير في فيتنام، يقال إنه قرر العودة إلى بلدِه و الانخراط في الحربِ ضد المستعمِر الفرنسي، حين قرأ قصيدة للشاعر الفرنسي لويس أراغون عن أَسَد الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي بعنوان «الملهم»، وأعجب بشخصية الأمير وبحرب تحرير الريف من الآلة الاستعمارية الإسبانية.
طلب «هو تشي منه» مساعدة الأمير ولم يتَأخر عنه. بدأت الإذاعة الفيتنامية في بث برنامج إذاعي باللغتين العربية والأمازيغية لمناضلين مغاربة من مختلف التيارات السياسية، كان البرنامج موجهًا للجنود المغاربة في خنادق «العدو»، الذين استقدمتهم فرنسا من مستعمَرَتِها «المغرب» ليحاربوا ضمن صفوفه، كانت غالبيتهم العظمى آتية من أوساط قروية فقيرة وغير متعلمة، لم يكونوا يدركون أنهم يخوضون حربًا ضد شعب مستعْمَر مثلهم، لم تكن لديهم فكرة عن حروب التحرر التي تخوضها شعوب العالم الثالث حينها، و لكن حين بدأوا يفهمون، انقلبوا على الجيش الفرنسي، وهربوا بسلاحهم منضمين لقوات «هو تشي منه» حتى تحقق لهم النصر في معركة «ديان بيان فو» المصيرية عام 1954 التي انهزم فيها الجيش الفرنسي المدعوم بالناتو أمام قوات كانت تحارب في أغلب الأحيان بأقدام حافية، لكن لم يكن ينقصهم التّوق إلى الحرية. حين قابلت أبناء هؤلاء الجنود المغاربة الأبطال في المغرب وفي فيتنام، و أنا أصور فيلمًا وثائقيًا عن قصتهم لم يكن معظم المغاربة يعرفون عنها الكثير قادتني قصتهم -لبطل الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي- للقدس، و لكل حروب التحرير التي خاضتها المستعمرات، و لازال يخوضها أهلنا في فلسطين. كنت أفكر أننا كشعوب عربية كل ما نحتاجه هو قيادات مدركة أن للتاريخ دائمًا الكلمة العليا، وأن ديكتاتورية الجغرافيا لا ترحم من تخاذل في نصرة المعارك العادلة التي تخوضها الشعوب في سبيل الحرية والكرامة.. وكما قال الأمير الخطابي «الشكوى لا تُغْني ولو بَكَينا إلى قيام الساعة» فوحدها الأفعال النابعة عن حب الأوطان الصادق تفعل..وتلك أفعال «الأمراء».