كتبَ الروائي والكاتب الفَرنسي مارك إدوارد ناب: تخيّل أنك في صباح أحد الأيام، رغم أنك لم تفعل أي شيء، يطرق أحدهم بابَك. إنه رجل يقول إنه كان يعيش في بيتك عندما لم يكن المبنى قد تمَّ تشييده. يُخبرك أن المالك قد وعده بذلك، وأن مجلس المدينة أعطاه الإذن «بالعودة». تُخبره أن هذا غير وارد، لكنه كان قد استولى على غرفة النوم الاحتياطيّة بالفعل. في اليوم التالي، تتصل بجارك وتطلب منه مُساعدتك في طرد الضيف من منزلك، لكن الأخير، الذي كان يبحث في ثلاجتك ويجلس على مائدة العشاء، يُدافع عن نفسه.
بعد فترةٍ وجيزةٍ، يصل أبناء عمومته وأبناء إخوته وأعمامه وخالاته ليحتلوا جميع غرف النوم، فتضطر زوجتك وأطفالك إلى مُغادرة الشقة والبحث عن ملجأ غير بعيد.
جيرانك جميعهم إلى جانبك وضيفك الذي يشعر بعدم الارتياح، يتمكن من استمالة البوَّاب إلى جانبه والاستيلاء على المبنى بأكمله، من الأقبية إلى السطح، حتى يشعرَ بأمان أكبر.
أنت تغضب، لكن ضيفك أقوى منك. يحبسك في الحمام، ولا يُطعمك أبدًا، ولا يسمح لك بالخروج أبدًا. ومن وراء الباب، يُخبرك وهو يصرخ أنه حصل على دعم الشركة التي تُدير المبنى. وبعد فترة، تشعر بالغضب الشديد لدرجة أنك أشعلت النار في الحمام. يأتي رجال الإطفاء لإخماد الحريق الذي دمر جزءًا من الشقة وقتل بعض أفراد عائلة ضيفك. عندما يقوم رجال الإطفاء بإخراج جسدك المُتفحّم على نقالة، يبصق ضيفك عليه ويصفك بالإرهابي.
تخيّل أن من يصف المأساة الفلسطينيّة مع الاحتلال الإسرائيلي بهذه الدقة وبهذه الكلمات – التي فيها الكثير من العدل والإنصاف في حق جيل فلسطينيي النكبة والشتات الذين هُجّروا من بيوتهم قسرًا – من يصفها ليس فلسطينيًا وليس عربيًا ولا مُسلمًا، هو قبل أن يكون أي شيء آخر، إنسان حكم بوصلته الأخلاقيّة التي قادته إلى أن ما حصل في فلسطين عام 1948 هو أكبر عملية سرقة حصلت في التاريخ، حين دخل الإسرائيليون أرض فلسطين وأخرجوا أهلها من بيوتهم دون وجه حق.
رواية النكبة والتهجير في فلسطين على عكس أحداث تاريخيّة أخرى في تاريخنا المُعاصر، من أكثر القصص التي تعرضت للتحريف والمُغالطات من أجل خدمة الاحتلال الإسرائيلي الذي بنى كل روايته على الأكاذيب، وهكذا كان الحال منذ ما يزيد عن سبعة عقود، إلا أن تبني رواية الاحتلال كان وسيظل فعلًا شاذًا، خصوصًا أننا شاهدنا كيف تبنى جيل كامل من المؤرخين الإسرائيليين، أطلق عليهم في نهاية الثمانينيات مع بداية ظهورهم، اسم «المؤرخون الإسرائيليون الجدد»، فما بالك لو تبنى عربي وجهة نظر الاحتلال؟
هذا الفعل الشاذ أصبح له اسم، «الصهاينة الجدد»، مجموعة من كُتَّاب وصحفيين وشخصيات عربية تستميت في الدفاع عن بشاعات الدفاع الصهيوني، بل وتجد مُبرّرات لكل فعل إجرامي تقوم به. قبل الخوض في دوافع هذه الفئة التي تُعرف أيضًا باسم الصهاينة العرب، من المُهم جدًا أن نعرفَ متى بالضبط بدأت بالظهور بيننا وأصبح لها صوت وضمائر للبيع.
قبل أكثر من ربع قرن، تنبأ الراحلُ الدكتور عبد الوهاب المسيري بالمرحلة التي قد يُصبح فيها العربي والمُسلم «صهيونيًا وظيفيًا» يقوم بالوظائف ذاتها التي كان يقوم بها الإسرائيلي.
في فيديو عاد للظهور مُجددًا وتداولته آلاف الحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي نرى الدكتور المسيري يقول: « أنا أتنبأ بأن الدولة الإسرائيلية، ستُقلل من ديباجتها اليهودية (…) من الآن وصاعدًا سيأتي لنا إسرائيلي يحمل حقيبة تاجر- يُريد فقط أن يُتاجر، بل أقول أكثر من ذلك، هناك بعض المُسلمين، يقومون بدور الإسرائيلي وسيُمثلون إسرائيل خير تمثيل (…) سيأتي الصهيوني الجديد أو ما أُسميه الصهيوني الوظيفي سيأتي ويُصلي معنا العشاء في المسجد».
طبعًا لم يتأخر هذا الزمن، وها هم الصهاينة العرب يملؤون المكان، ليس فقط منذ طوفان الأقصى ولو أن عملية السابع من أكتوبر جعلتهم يصرخون بصوت أعلى، إلا أن ظهورهم الحقيقي بدأ يُصبح ملموسًا واكتسبوا جُرأة أكبر في الجهر بمواقفهم مع بَدء توقيع اتفاقيات إبراهام قبل أربع سنوات تقريبًا، حيث يتعالى الصُراخ كلما احتدمت المواجهة بين المُقاومة والاحتلال، وكلما شعر البعض أن عليه أن يواجهَ التعاطف المُتزايد مع حماس بحملة تشويه للمُقاومة بل للشعب الفلسطيني وعدالة قضيته. في نهاية ثمانينيات القرن الماضي حين اندلعت الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى، كان من النادر أن يرتفعَ أي صوت خارج صوت الإجماع العربي، ومع أن بعض الأنظمة كانت ولا تزال تقف مكان المُتفرّج الذي لا حول له ولا قوة، إلا أنها لم تكن تُصادر على الأقل حق الشعوب في الخروج إلى الشوارع ولم تكن تقف وراء أقلام مأجورة وشخصيات تقتات على خلق الصدمة بمواقف ضد الفِطرة الإنسانيّة السليمة من خلال تأييدها لقتل وتشريد المدنيين. حين قتل المُحتلُ الإسرائيلي الطفلَ محمد الدرة على مرأى ومسمع العالم، لم يخرج علينا أحد يتهم والده بأنه يُتاجر بدماء ابنه ولم يتحفنا أحد بنظرية استعمال الأطفال كدروع بشريّة من أجل تحقيق أهداف سياسيّة، ولم يتهم أحد أطفال الحجارة بتهمة الإرهاب.. ربما كانت البوصلة الأخلاقية عند بعض العرب أكثر ثباتًا، وربما لم تكن بعد قد ظهرت فئة التاجر الذي يُصلي العشاء مع المُسلمين ويُقيم الطقوس التلموديّة صباحًا مع الإسرائيليين.