باريس – قنا :

مع انتهاء الانتخابات التشريعية في فرنسا، دخل البرلمان الفرنسي في تحد جديد بعدم وجود جبهة موحدة ذات أغلبية مطلقة، تمكنها من اختيار رئيس حكومة جديد، وذلك في ظل وجود ثلاثة تكتلات مختلفة، حيث تصدر التحالف اليساري “الجبهة الشعبية الجديدة” النتائج بالحصول على 187 مقعدا، بينما حل معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون الوسطي في المرتبة الثانية بـ 168 مقعدا، في حين جاء تحالف اليمين المتطرف في المرتبة الثالثة بـ143 مقعدا.
ويرى محللون وخبراء فرنسيون، في تصريحات خاصة لوكالة الأنباء القطرية /قنا/، أن هذه النتائج التي جاءت غير حاسمة، تواجه تحدي تكوين جبهة موحدة ذات أغلبية مطلقة في البرلمان، في ظل غياب “التوافق”، حيث يتألف البرلمان من 577 مقعدا، وللحصول على الأغلبية يحتاج التكتل الحاكم إلى 289 مقعدا على الأقل.
وفي هذا الصدد، قالت ليزلي فارين رئيسة معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية بباريس، في تصريحات لـ /قنا/: “إن التحديات الكبرى التي تواجه تشكيل البرلمان الفرنسي الجديد وانتخاب رئيس حكومة جديد، هو تكوين تعايش وجبهة موحدة لأغلبية مطلقة، وهذا صعب اليوم على أرض الواقع السياسي، وذلك لوجود مجموعات حزبية سياسية متضادة في وجهات نظرها وبرامجها”.
وأضافت أن “الجبهة الشعبية الجديدة” ممثلة تحالف اليسار، إذا لم تنحل بالوقت، تبقى من أهم الجبهات السياسية التي سيكون لها دور أساسي في البرلمان القادم، رغم أنها لا تملك الأغلبية المطلقة، وتبقى هذه الأغلبية النسبية هي التحدي الأساسي الذي يطرح عليها وعلى بقية الجبهات السياسية.
واعتبرت فارين أن الجبهة الشعبية الجديدة قادرة على الحكم بعيدا عن كل التخوفات والاتهامات التي تطالها من بقية المعارضين السياسيين، لأنها دخلت الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية ببرنامج موحد ومتماسك، وهي قادرة على تنفيذه إذا أعطيت فرصة الحكم.
ونوهت الى أن المشكلة الأساسية التي تواجهها هي أنها لا تملك الأغلبية المطلقة، ورغم ذلك يمكنها بالأغلبية النسبية فقط التي حصلت عليها أن تحكم في الفترة القادمة، كما حكم تحالف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بنفس الطريقة لمدة عامين.
واعتبرت أن هذه الجبهة ستنجح في مفاوضاتها الجارية، من أجل التوافق على اسم ومرشح لرئيس حكومة قادم، لأنها تعرف أنه ليس من مصلحتها أن تفشل في ذلك، حيث من الممكن أن يتسبب هذا الفشل في انفراط عقد هذا التحالف وهذه الجبهة اليسارية، ويبقى قبول الرئيس ماكرون لهذا المرشح لرئاسة الحكومة، من عدمه أمرا غير معروفا لحد اللحظة.
وأوضحت فارين في ختام تصرحاتها لـ/قنا/، أن التحدي الكبير الذي يواجه “الجبهة الشعبية الجديدة” يكمن في محاولة بعض الأحزاب الصغيرة التي تنتمي إليها، الانضمام إلى التحالف الرئاسي.

من جانبه، قال منصف السليمي الكاتب والمحلل السياسي المختص في العلاقات الأوروبية والدولية، في تصريحاته لـ /قنا/: “أعتقد أن قرار عدم قبول الرئيس ايمانويل ماكرون لاستقالة رئيس الحكومة غابريال أتال هو قرار واقعي وبراغماتي لاعتبارات عديدة، أهمها الاستحقاقات المهمة الكثيرة التي تنتظر فرنسا في الفترة القادمة، وأبرزها دورة الألعاب الأولمبية التي هي ليست مجرد ألعاب رياضية ضخمة، وإنما هي تظاهرة معقدة على المستوى الأمني وفيها تحديات كثيرة”.
وأضاف السليمي أن هناك أيضا الاعتبارات والتحديات المالية لفرنسا سواء على المستوى الأوروبي أو على المستوى الداخلي، التي تتطلب نوع من الاستمرارية في تسيير الدولة، بالإضافة ألى أن البرلمان لا توجد فيه أغلبية مطلقة لكتلة معينة، وللوصول لهذه الأغلبية لابد من أسابيع من المفاوضات والنقاشات والتجاذبات السياسية.
ولفت الى أن كل هذه التحديات تقلل من الخيارات أمام الرئيس إيمانويل ماكرون وتجعله مضطرا لاتخاذ قرار عدم قبول استقالة رئيس الحكومة غابريال أتال، لأنه من الخطأ أن يقبل الرئيس هذه الاستقالة ويترك الأمور مفتوحة على المجهول.
وأشار إلى أن السيناريوهات المطروحة لتكوين جبهة ذات أغلبية مطلقة في البرلمان، تتمثل في نجاح تحالف اليسار، على التوافق حول مرشح موحد لرئيس حكومة والحصول في نفس الوقت على دعم من أحزاب الوسط والمحافظين، أو نجاح تكتل تحالف الرئيس في إقناع بعض التكتلات الوسطية أو التقليدية الأخرى على غرار “الجمهوريون” بالانضمام إليه من أجل تكوين نواة صلبة للحكومة القادمة، ويكمل جزء آخر من اليسار من أجل تكوين أغلبية مطلقة في البرلمان، أو نجاح الطبقة السياسية الفرنسية في كسر عقدة ثقافة “اللا توافق” وإيجاد أرضية برنامج مشترك بين التكتلين الرئيسيين “الجبهة الشعبية الجديدة”، و”تحالف قوى الوسط”، في حين سيكون السيناريو الرابع هو فشل كل المساعي الائتلافية بين القوى السياسية، وحينها يضطر الرئيس ماكرون إلى تكليف شخصية “تكنوقراط” لإدارة الحكومة إلى حين الانتخابات الرئاسية أو التشريعية المقبلة.
واعتبر منصف السليمي، في ختام تصريحاته لـ /قنا/، أنه من التحديات الكبيرة التي ستواجه صانع القرار الفرنسي في الفترة القادمة، هو غياب التوافق داخل البرلمان، مما قد يدفع فرنسا إلى العودة مجددا إلى صناديق الاقتراع.
من جهته، قال إيمانويل دوبوي رئيس المعهد الأوروبي للأمن والاستشراف والمحلل المختص في العلاقات الدولية في تصريحات لـ /قنا/: “التحدي الأول الذي يطرح على البرلمان الفرنسي بعد اجتماعه الأول المقرر في 18 يوليو الجاري، هو انتخاب رئيس له ثم انتخاب رؤساء الكتل ورؤساء اللجان مثل لجنة المالية ولجنة العلاقات الخارجية ولجنة الدفاع وغيرها، وكل هذه الخطوات الإجرائية ستمر بنقاشات حادة لأنه ليس هناك أغلبية مطلقة في هذا البرلمان”.
وأضاف دوبوي أن التحدي الثاني هو تكوين أغلبية مطلقة في البرلمان من خلال التحالفات المقبلة والتي تبدو صعبة جدا، ولكن لابد منها لعمل البرلمان ولكي تكون حزام أمان للحكومة المقبلة التي سواء كان رئيس حكومتها من داخل البرلمان أو شخصية أخرى مستقلة من خارجه، سيحتاج حتما هو وحكومته إلى التصويت على الثقة من هذا البرلمان.
وأشار إلى أنه إذا لم يفض التقسيم الأول للكتل الحزبية بعد التحالفات إلى تكوين أغلبية مطلقة في البرلمان، فإن الرئيس ماكرون يمكن أن يقرر تأجيل اختيار وتعيين رئيس حكومة جديد إلى شهر سبتمبر القادم، خاصة في ظل اقتراب انطلاق دورة الألعاب الأولمبية في باريس خلال الشهر الجاري.
وأوضح أن المشكلة الأساسية التي حل من أجلها البرلمان هي غياب الأغلبية المطلقة، ولن يغير شيئا انتقال الأغلبية النسبية من تحالف الرئيس الوسطي لتحالف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري، لذلك يجب على البرلمان أن يكون قادرا على الصمود لمدة عام، وهي المدة التي يحددها الدستور للرئيس ليتمكن مرة أخرى من حل البرلمان.
وحث إيمانويل دوبوي، في ختام تصريحاته لـ/قنا/، على ضرورة مراجعة الدستور الفرنسي وتنقيحه أو ربما تغييره بالكامل والدخول في جمهورية سادسة، لأن ما يقترحه هذا الدستور ووقع تجريبه يبقي الأمور معلقة وفي حالة انسداد سياسي، وهذا ما أظهره حل البرلمان الذي عمق انسداد النظام الدستوري الحالي ولم يحله، حسب تعبيره.