الدوحة – قنا:

تتجه أنظار العالم يوم الجمعة المقبل إلى العاصمة الفرنسية باريس، مع انطلاق دورة الألعاب الأولمبية الصيفية 2024،الثالثة والثلاثين، وهو الحدث الدولي متعدد الرياضات التي تنظمه اللجنة الأولمبية الدولية ويستمر حتى 11 أغسطس المقبل بمشاركة 10500 رياضي ورياضية .
ويتضمن برنامج الألعاب في أولمبياد باريس 32 رياضة أولمبية، منها 28 أساسية بالإضافة إلى 4 رياضات مضافة، موزعة على 48 اختصاصا في 329 فعالية رياضية.
وتأتي أهمية الألعاب الأولمبية في أنها تتجاوز مجرد المنافسة الرياضية، فهي تمثل لقاء الأمم وتعزيز السلام والوئام والتفاهم المتبادل. وتعد الألعاب الأولمبية منصة للرياضيين من مختلف الثقافات والخلفيات لعرض مهاراتهم وقدراتهم وكسر الحواجز. وتتمتع الألعاب الأولمبية بتاريخ غني يعود إلى اليونان القديمة، ويمكن إرجاعها إلى القرن الثامن قبل الميلاد، في مدينة أولمبيا باليونان القديمة.
وفي الأصل، كانت الألعاب متواضعة، ولم تضم سوى عدد قليل من الأحداث الرياضية. وأول حدث مسجل، هو سباق الاستاد، الذي شارك فيه رياضيون يركضون على طول مسار الاستاد، ومع مرور الوقت، كانت ألعاب القوى هي المنافسات الرياضية الرئيسية في برنامج تلك الدورات، كما شملت الرياضات القتالية، مثل المصارعة ورياضة البانكراتيو اليونانية، بالإضافة إلى مسابقات الخيل وسباق العربات.
ولا يخلو تاريخ الألعاب الأولمبية من الصعود والهبوط، وبعد ازدهارها لعدة قرون في اليونان القديمة، واجهت الألعاب تراجعا مع سقوط الإمبراطورية الرومانية. وتم نسيان هذا الحدث الذي كان يحتفل به ذات يوم، وضاع في سجلات التاريخ.. ولكن في أواخر القرن التاسع عشر، قام بيير دي كوسعى أوبيرتين- المعروف أيضا بدي كوبرتان- وهو مدرس ومؤرخ فرنسي، بإحياء الألعاب واستعادة مجدها السابق.. وبإلهام من التقاليد اليونانية القديمة، آمن دي كوبرتان بقوة الرياضة في تعزيز السلام والوحدة والتفاهم الدولي، وتجسدت رؤيته في عام 1896 عندما أقيمت أول دورة ألعاب أولمبية حديثة في أثينا باليونان تحت رعاية اللجنة الأولمبية الدولية في ملعب باناثينايكو.
جمعت الألعاب 14 دولة و241 رياضيا تسابقوا في 43 مسابقة في 9 رياضات. مما مثل ولادة جديدة لتقليد قديم. وقد مهد نجاح هذه الألعاب الطريق لاستمرار إحياء الحركة الأولمبية. وضمت الألعاب الأولمبية الحديثة ألعاب القوى وركوب الدراجات والسباحة والجمباز وغيرها. وقد حققت الألعاب نجاحا كبيرا، حيث استحوذت على خيال العالم ورمزت إلى روح المنافسة الودية والتميز الرياضي.
ومنذ ذلك الحين، توسعت الألعاب من حيث الحجم، حيث اجتذبت آلاف الرياضيين من جميع أنحاء العالم للتنافس في مجموعة واسعة من التخصصات، وأصبحت تقام كل أربع سنوات منذ ذلك الحين، باستثناء فترات انقطاع قليلة بسبب الحرب العالمية الأولى والثانية.
وشهدت الألعاب الأولمبية عام 1900 في باريس أول مشاركة نسائية. ورغم أن هذا الإنجاز كان مقتصرا في البداية على التنس والجولف، إلا أنه مهد الطريق لمزيد من الفرص للسيدات للمشاركة والتفوق في مختلف الألعاب الرياضية على مر السنين.
وشهدت دورة الألعاب الأولمبية لعام 1936 التي أقيمت في العاصمة الألمانية برلين الأداء الأسطوري لجيسي أوينز، وهو رياضي أمريكي من أصل أفريقي. وتحدى أوينز التحيز العنصري في ذلك الوقت بفوزه بأربع ميداليات ذهبية في سباقات المضمار والميدان، مما أظهر قوة الرياضة في تحدي الحواجز المجتمعية.
وتم إنشاء الألعاب الأولمبية الشتوية لتتضمن الرياضات الثلجية والجليدية التي كان من المستحيل من الناحية اللوجستية عقدها خلال الألعاب الصيفية. قبل الألعاب الشتوية، كانت رياضة التزلج على الجليد ضمن برنامج دورات 1908 و 1920 الصيفية، وكذلك هوكي الجليد في دورة 1920، وأرادت اللجنة الأولمبية الدولية توسيع قائمة الرياضات لتشمل الأنشطة الرياضية الشتوية الأخرى. وفي المؤتمر الأولمبي لعام 1921 في لوزان، تقرر عقد نسخة شتوية من الألعاب الأولمبية.
وفي عام 1924، عقدت أول ألعاب أولمبية شتوية في مدينة شاموني، بفرنسا، والتي استمرت لمدة 11 يوما. واكتفت اللجنة الأولمبية الدولية بأن يتم الاحتفال بالألعاب الشتوية كل أربع سنوات في نفس العام الذي تقام به نظيرتها الصيفية. وتم الحفاظ على هذا التقليد حتى ألعاب 1992 في ألبرتفيل، فرنسا. وبدءا من دورة الألعاب الأولمبية لعام 1994، تقام الألعاب الأولمبية الشتوية كل أربع سنوات، وذلك بعد عامين من كل دورة ألعاب أولمبية صيفية.
وشهدت دورة الألعاب الأولمبية الشتوية عام 1980 في ليك بلاسيد بالولايات المتحدة الأمريكية لحظة تاريخية في رياضة هوكي الجليد. حيث هزم فريق الولايات المتحدة، المكون بشكل أساسي من لاعبين هواة، فريق الاتحاد السوفيتي المهيمن في ذلك الوقت، فيما أصبح يعرف باسم “معجزة الجليد”.. وقد أسر هذا النصر مخيلة الأمة ورمز إلى انتصار العزيمة والعمل الجماعي.
كذلك تم استحداث الألعاب البارالمبية الصيفية وهي حدث رياضي خاص بالرياضيين من ذوي الاحتياجات الخاصة، ففي عام 1948 وبالتزامن مع انعقاد أولمبياد لندن 1948، نظم الطبيب البريطاني لودفيج جوتمان مجموعة من الأنشطة الرياضية بين عدة مستشفيات، شارك بهذا الحدث جرحى الحرب العالمية الثانية من الجنود في سبيل تعزيز إعادة تأهيلهم صحيا ونفسيا واستخدام الرياضة كوسيلة للشفاء. وأصبح هذا الحدث الرياضي يعرف باسم ألعاب ستوك ماندفيل، وكان يقام سنويا على مدى الـ 12 سنة التالية.. وفي عام 1960 حضر 400 رياضي إلى روما للتنافس في “الألعاب الأولمبية الموازية” التي أقيمت بالتوازي مع الألعاب الأولمبية الصيفية، والتي أصبحت تعرف باسم أول ألعاب بارالمبية.
ومنذ ذلك الحين تقام الألعاب البارالمبية في كل عام أولمبي، وبدءا من دورة الألعاب الأولمبية الصيفية 1988 في سول، أصبحت المدينة المضيفة للألعاب الأولمبية تستضيف أيضا الألعاب البارالمبية.
وفي عام 2001، وضع رئيس اللجنة الأولمبية الدولية آنذاك جاك روج مخططا، لإنشاء دورة ألعاب خاصة بالرياضيين الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و 18 سنة، وتمت الموافقة على الاقتراح خلال اجتماع الدورة الـ119 للجنة الأولمبية الدولية عام 2007. وأقيمت الألعاب الأولمبية الصيفية الأولى للشباب في سنغافورة في الفترة من 14 إلى 26 أغسطس 2010، في حين أقيمت الألعاب الأولمبية الشتوية الأولى للشباب في إنسبروك النمساوية في الفترة من 13 إلى 22 يناير 2012.
وهذه الألعاب أقصر من الألعاب الأولمبية الأساسية، حيث تستمر النسخة الصيفية اثني عشر يوما، بينما تستمر النسخة الشتوية تسعة أيام. وتسمح اللجنة الأولمبية الدولية لـ 3500 رياضي و 875 مسؤولا بالمشاركة في الألعاب الأولمبية الصيفية للشباب، و 970 رياضيا و 580 مسؤولا في الألعاب الأولمبية الشتوية للشباب. وتتزامن هذه الدورات مع الدورات الأولمبية للكبار بشكل عكسي لناحية الفصول، حيث تزامنت الألعاب الصيفية للشباب مع سنة الألعاب الشتوية للكبار والألعاب الشتوية للشباب بنفس سنة الألعاب الصيفية للكبار.
وكانت دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في طوكيو عام 1964 هي المرة الأولى التي يتم فيها استضافة الحدث في قارة آسيا، مما شكل لحظة مهمة للاعتراف العالمي بالرياضة الآسيوية ونموها. وبالمضي قدما حتى عام 2021، أظهرت أولمبياد طوكيو المرونة والقدرة على التكيف، حيث أقيمت وسط تحديات جائحة كورونا مما أكد على القوة الموحدة للألعاب.
وكانت الحرب العالمية الأولى من الأحداث البارزة التي كان لها تأثير عميق على الألعاب الأولمبية. ومع اندلاع هذا الصراع المدمر في عام 1914، كان لا بد من إلغاء الألعاب المقرر إجراؤها في ذلك العام في برلين. ولم تعطل الحرب الألعاب فحسب، بل أدت أيضا إلى خسارة عدد لا يحصى من الرياضيين الذين فقدوا حياتهم خلال الصراع. ولم تستأنف الألعاب الأولمبية حتى عام 1920 في أنتويرب ببلجيكا لتكون بمثابة رمز للأمل والوحدة في عالم ما بعد الحرب.
وهناك حدث مهم آخر ترك بصماته على الألعاب الأولمبية وهو الحرب العالمية الثانية. وتم إلغاء الألعاب المقرر إجراؤها عام 1940، والتي منحت في البداية لطوكيو باليابان، كما تم إلغاء الألعاب اللاحقة في عام 1944، والتي كان من المقرر إقامتها في لندن. وأحدثت الحرب فجوة في الحركة الأولمبية، حيث ركز الرياضيون والدول جهودهم على المجهود الحربي.
ولا شك أن دورة الألعاب الأولمبية الأخيرة التي أقيمت في طوكيو 2021، ستسجل في التاريخ باعتبارها فصلا فريدا في الألعاب الأولمبية. كان من المقرر أصلا إقامة الألعاب في عام 2020، إلا أن العالم شهد حدثا غير مسبوق حيث تم تأجيل الألعاب لأول مرة على الإطلاق بسبب جائحة فيروس كورونا COVID-19 العالمي. ولم يكن قرار تأجيل الألعاب قرارا سهلا، ولكن تم اتخاذه مع الأخذ في الاعتبار سلامة ورفاهية الرياضيين والمسؤولين والمتفرجين.
وهناك جانب آخر ميز أولمبياد طوكيو 2021 وهو تكامل التكنولوجيا المتقدمة. وقد اغتنمت طوكيو، المعروفة بابتكاراتها وتقدمها التكنولوجي، الفرصة لعرض أحدث التطورات في مختلف جوانب الألعاب. بدءا من الروبوتات المساعدة المستقبلية وحتى المعدات الرياضية عالية التقنية، ولعبت التكنولوجيا دورا مهما في تعزيز التجربة الأولمبية الشاملة. وشهدت الدورة مشاركة 206 دول، وبلغ عدد الرياضيين المشاركين نحو 11326 رياضيا، وتسابقوا في 324 مسابقة، في 33 رياضة أولمبية و22 رياضة بارالمبية.
لقد تركت الألعاب الأولمبية بصمة لا تمحى على العالم عبر التاريخ، حيث خلقت إرثا يتجاوز مجرد المنافسة الرياضية منذ نشأتها في اليونان القديمة وحتى المشهد المبهر للأحداث الرياضية الحديثة، أصبحت الألعاب الأولمبية رمزا للوحدة والروح الرياضية والإنجاز الإنساني.
إن إحدى أهم ملامح تراث الألعاب الأولمبية هي روح التعاون الدولي والصداقة التي تعززها. يجتمع الرياضيون من خلفيات وثقافات متنوعة معا على مسرح عالمي للتنافس وإقامة الروابط وكسر الحواجز. تعد الألعاب بمثابة تذكير قوي بأنه على الرغم من اختلافاتنا، فإننا نتشاطر إنسانية مشتركة وشغفا بالتميز.
علاوة على ذلك، أصبحت الألعاب الأولمبية منصة للتغيير الاجتماعي والدعوة.. وعلى مر السنين، استخدم الرياضيون مشاركتهم في الألعاب لرفع مستوى الوعي حول القضايا الاجتماعية الهامة ومناصرة القضايا القريبة من قلوبهم. من انتصار جيسي أوينز في مواجهة التمييز العنصري في أولمبياد برلين عام 1936 إلى تحية تومي سميث وجون كارلوس الشهيرة “القوة السوداء” في عام 1968، حيث أثارت هذه اللحظات المحادثات وألهمت أجيالا للنضال من أجل المساواة والعدالة.