الدوحة – قنا :

أثار الرأي الاستشاري الذي توصلت إليه محكمة العدل الدولية، التابعة للأمم المتحدة، وتأكيدها أن سياسات الاحتلال الإسرائيلي الاستيطانية واستغلاله الموارد الطبيعية في الأراضي المحتلة تنتهك القانون الدولي، مزيدا من الخلافات واتساع الهوة بين الموقفين الأمريكي والأوروبي تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني عموما، والتعاطي مع الحرب المدمرة التي يشنها الكيان المحتل على الفلسطينيين منذ أكثر من تسعة أشهر على وجه الخصوص، حيث يلقى رأي المحكمة قبول ودعم الاتحاد الأوروبي وأغلبية دول العالم، في حين تنتقده أمريكا.
وقال رئيس المحكمة نواف سلام أثناء تلاوة نتائج توصلت إليها لجنة مكونة من 15 قاضيا: إن “المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، والنظام المرتبط بها، أنشئت ويجري الإبقاء عليها بالمخالفة للقانون الدولي”. وأضاف أن الالتزامات التي تقع على عاتق الكيان الإسرائيلي تشمل دفع تعويضات عن الضرر و”إجلاء جميع المستوطنين من المستوطنات القائمة”.
وفي حين انتقدت الولايات المتحدة الرأي الإستشاري الذي أصدرته محكمة العدل الدولية تجاه احتلال أراضي الفلسطينيين والمستوطنات خصوصا، بحجة أنه سيعقد الجهود المبذولة لحل الصراع، فإن الاتحاد الأوروبي عده منسجما إلى حد كبير مع مواقفه، وأكد أنه أخذ علما بشكل جيد برأي المحكمة، وحض على مزيد من الدعم له.
تباين المواقف الأمريكية والأوروبية نحو الوضع القائم في الأراضي الفلسطينية والقصف الإسرائيلي المتواصل وآلاف الضحايا وانتهاك القانون الدولي سيشكل ضغطا إضافيا، ولا شك، على مجمل الصراع وآثاره السياسية والإنسانية، وعلى رأسها قضية الاعتراف بالدولة الفلسطينية ومدى تواصل التمويل والدعم العسكري، خصوصا من قبل واشنطن التي تأثر تسليحها للجيش الإسرائيلي جراء الانتقادات.
وهذا الخلاف بين بروكسل وواشنطن وإن كان ليس جديدا، لكنه يضفي مزيدا من الشقاق على طبيعة العلاقات بين جهتين صاحبتي نفوذ كبير في السياسة العالمية، وسيؤثر بطبيعة الحال على آليات التعامل مع رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التي تواجه المأزق تلو الآخر، ودعمها العسكري والاقتصادي، خصوصا من واشنطن الحليف السياسي والداعم العسكري الأكبر، التي باتت تدرك أن تعنت حكومة نتنياهو ورفضها أي حلول تنهي الحرب لم يعد مقبولا، وسط تعالي الأصوات الأوروبية الداعية لوقف هذه الحرب المدمرة دون شروط.
ورغم أن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية أوضح أن برنامج الحكومة الإسرائيلية لدعم المستوطنات يتعارض مع القانون الدولي ويعرقل قضية السلام، فإن الإدارة الأمريكية مع ذلك تشعر بالقلق من اتساع نطاق رأي المحكمة، وتعتقد أنه سيعقد الجهود الرامية لحل الصراع وتحقيق السلام العادل والدائم الذي تشتد الحاجة إليه، والمتمثل في وجود دولتين تعيشان جنبا إلى جنب في سلام وأمن، على حد قوله.
ودعت الولايات المتحدة كل الأطراف إلى عدم استخدام رأي محكمة العدل الدولية كذريعة لاتخاذ مزيد من الإجراءات الأحادية التي تعمق الانقسامات.
أما جوزيب بوريل، منسق الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فقال إن رأي محكمة العدل الدولية يأتي في عالم يشهد انتهاكات مستمرة ومتزايدة للقانون الدولي، وأن من واجب الاتحاد الأوروبي الأخلاقي أن يؤكد من جديد التزامه الثابت بجميع قرارات محكمة العدل الدولية بطريقة متسقة، بما في ذلك بالنظر إلى انعكاساته على سياسة الاتحاد.
ويدعي الكيان الإسرائيلي المحتل السيادة على القدس كلها، ويعتبرها عاصمة إسرائيل الموحدة، وهو أمر لا توافق عليه الأغلبية الساحقة من المجموعة الدولية، وأنشأ الاحتلال أيضا 160 مستوطنة تؤوي 700 ألف من المستوطنين اليهود في الضفة الغربية والقدس، وتعد هذه المستوطنات غير شرعية في القانون الدولي، وإن كانت إسرائيل تحتج على ذلك.
ردود الفعل على رأي المحكمة كانت متوقعة، فقد انتقدت حكومة نتنياهو المتطرفة على الفور الرأي الاستشاري، واعتبرت أنه يستند إلى “أكاذيب، حيث جاء إصدار محكمة العدل له بعد يومين من تصويت الكنيست الإسرائيلي بالأغلبية على مشروع قرار يرفض إقامة أي دولة فلسطينية في غرب نهر الأردن، باعتبار أن مثل هذه الدولة ستشكل “خطرا وجوديا على دولة إسرائيل ومواطنيها”، بحسب نص القرار.
وعلى العكس منها، وصفت وزارة الخارجية الفلسطينية رأي المحكمة بأنه “فتوى قانونية تاريخية”، وحثت الدول على الالتزام به.
وقال رياض المالكي مستشار الرئيس الفلسطيني للشؤون الدولية ومبعوثه الخاص خارج المحكمة في لاهاي: إن على جميع الدول الآن الوفاء بالتزاماتها الواضحة تجاه الاحتلال “لا مساعدات، لا تواطؤ، لا أموال، لا أسلحة، لا تجارة، لا شيء”، وأن كافة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ملزمة قانونا بإنهاء الوجود الإسرائيلي على أراضي فلسطين.
إقليميا، رحبت مصر والأردن ومجلس التعاون الخليجي بالرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، وأكدت الأطراف الثلاث ضرورة احترامه من جميع الأطراف الدولية وتنفيذه، والمساعدة في تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه الشرعي في تقرير مصيره، وأكد مجلس التعاون الخليجي، في بيان، أهمية العمل على إنهاء المعاناة الإنسانية، مشيرا إلى أن هذا الرأي القانوني يؤكد ويعزز حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة والقانونية وفق القرارات الدولية والأممية لاسترجاع الأراضي الفلسطينية المسلوبة من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
وجاء الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية ضمن سلسلة من المتغيرات الدولية في الآونة الأخيرة، فقد اعترفت خمس دول أوروبية، هي: النرويج وأيرلندا وإسبانيا وسلوفينيا وأرمينيا، خلال الأسابيع الأخيرة بالدولة الفلسطينية، ليرتفع عدد الدول إلى 149 دولة عضوا في الأمم المتحدة تعترف بدولة فلسطين.
ورغم أن رأي محكمة العدل ليس ملزما، لكن له ثقله بموجب القانون الدولي، وقد يضعف الدعم الذي يحصل عليه الكيان الإسرائيلي، فضلا عن ذلك، فإنه يأتي وسط قلق متزايد بشأن عدد القتلى المدنيين المرتفع والدمار في الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين، في قطاع غزة، ناهيك عن الضفة الغربية المحتلة إذ إنه من المرجح أن يؤدي تدخل المحكمة إلى زيادة الضغوط الدبلوماسية على إسرائيل بشأن الحرب في غزة، وكذلك بالنسبة لدعم الاتحاد الأوروبي.
وفي هذا السياق، ينتقد البعض مثل هذه الآراء الاستشارية غير الملزمة وجدوى إصدارها، فقد سبق أن أصدرت محكمة العدل الدولية عام 2004 رأيا استشاريا مفاده أن الجدار العازل الإسرائيلي المحيط بمعظم أراضي الضفة الغربية غير قانوني، وأن المستوطنات الإسرائيلية أنشئت على نحو ينتهك القانون الدولي، ورفض الكيان الإسرائيلي هذا الرأي، ولم يبادر إلى فعل أي شيء نحو هذا الجدار الذي يحاصر الفلسطينيين ويخنق حياتهم.
ويأتي رأي محكمة العدل الدولية مع تقديم طلبات من جانب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان في 20 مايو 2024، لاستصدار أوامر اعتقال بتهم ارتكاب جرائم حرب، وإبادة ضد الإنسانية، في ما يتعلق بالحرب في غزة وهجوم السابع من أكتوبر الماضي، تشمل رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يواف غالانت، اعتبر فيها المدعي العام أنهما يتحملان المسؤولية الجنائية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي ارتكبت على أراضي دولة فلسطين اعتبارا من الثامن من أكتوبر 2023 على الأقل.
وتختلف هذه القضية، التي تنظر فيها محكمة العدل الدولية، عن القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا، وتتهم فيها الكيان الإسرائيلي بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في حربها على غزة، فقد اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا في الـ30 من ديسمبر 2022، طلبت فيه من محكمة العدل الدولية -طبقا للمادة 65 من النظام الأساسي للمحكمة- إعطاء فتوى ورأي استشاري حول الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك الكيان الإسرائيلي المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، نتيجة لاحتلاله الطويل الأمد واستيطانه وضمه للأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير الوضع القانوني للشعب الفلسطيني، والتركيبة الديمغرافية، وطبيعة ومكانة مدينة القدس المقدسة.
وفي فبراير الماضي، عرضت أكثر من 50 دولة وجهات نظرها أمام المحكمة، وطلب ممثلون فلسطينيون من القضاة الإقرار بأن الكيان الإسرائيلي يتعين عليه الانسحاب من جميع المناطق المحتلة وتفكيك المستوطنات غير القانونية، ورغم أن الكيان الإسرائيلي لم يشارك في جلسات الاستماع، لكنه قدم بيانا مكتوبا للمحكمة قال فيه إن إصدار رأي استشاري من شأنه “الإضرار” بمحاولات حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
وطلبت أغلبية الدول المشاركة في جلسات الاستماع من المحكمة اعتبار الاحتلال غير قانوني، في حين رأت مجموعة صغيرة من البلدان، منها كندا وبريطانيا، أن على المحكمة رفض إصدار رأي استشاري، بينما طلبت الولايات المتحدة من المحكمة عدم إصدار أمر ينص على الانسحاب غير المشروط للقوات الإسرائيلية من الأراضي الفلسطينية.