ما بين السطور.. بدايات
في البداية دائمًا، نعجز عن تحديد الفكرة التي ستُراودنا في أي لحظة.
نعجز عن البحث عن إطار لما نظن أنه فكرة إبداعيّة خلاقة، لنضعها في تصوّر الباحثين والدارسين في أي مكان يكونون.
نعجز عن إدراك أننا حقًا نبحث عن إضاءات جديدة لمسارات أخرى لم نُحاول الخوض فيها من قبل، ولم نتمكن من وطء شعابها وشواطئها المَرجانيّة.
في البداية، حيث نُحاول وضع الحروف واحدًا تلو الآخر، دون تصنيف ودون ترتيب، وكأننا نعتقد أنها ستقرأ أفكارنا بنفسها، وستصف نفسها فوق السطور كما هو في أدمغتنا، دون تدخل منا.
نبحر دونما قارب ودونما شراع، بين بحور مُتلاطمة الأفكار والأحلام والمخاوف، تحملنا رياحها إلى قمم الأمل والطموح والمقدرة، وتحطّ بنا في خضم النوح والعتْب والأحزان المُتراكمة.
أحزاننا تبدأ بدمعة واحدة، ثم تتقاطر أمطارًا وسيولًا دون هوادة، ودون رحمة، وهي تُبلل كل ما تقع عليه من ورق وحبر وأقلام ومناشف، وسطور واهية ضعيفة. مدمغة بالألوان والأصباغ منذ الأمس أو البارحة دون فكر ودون تنظيم مُسبق.
بدايات قواعدنا هي خُطوتنا الأولى، دائمًا نُحاول وضعها على الطريق المُستقيم، وكأننا نتمكن من رؤية هذا الطريق حتى نهايته، بينما نحن لا نرى منه إلا نقطة البداية، التي حفرت فيها أقدامنا بقايا من الأمس والزمن الذي لن يعودَ أبدًا.
نتوه معًا، في مجاهل الحُلم والأفكار، نرسم فوق حوائط الجيران، ونشم روائح العدم، والسخط واللامُبالاة، التي تتساقط فوق رؤوسنا كالحُمَم البُركانيّة الحارقة، دون إعلان أو تحذير مُسبق، حتى يُمكننا إخلاء المواقع التي تتوه بها خيالاتنا وأفكارنا الضائعة البعيدة.
في أزمان مُسبقة قديمة، كانت البداية صخرة صغيرة، توضع فوق صخرة أخرى، وتجمع بها صخرة وصخرة، حتى يتكوّن جدار من الصخور، وجدار من الحُلم، يصد غارات الزمان، وتقلب الأحوال، ويخفي خلفه أسرارًا داكنة مكتوبة منذ الأزل.
لا يمكن فكّ تلك الأسرار القديمة، فقد توارت وحدها تحت أطنان من الخوف والرعب الذي تلفّه ظلال المراكب المركونة فوق سواحل الزمن، والمُنتظرة لرُبانها وبحّارتها الذين يئسوا من البحث عن الحب واصطياد الأحلام الموعودة، والتي لا يمكن أن توجد في جوف أي محارة، أو تحت أي صخرة من صخور القاع، أو في جوف أي سمكة محظوظة لتكون طعامًا على سفرة ما.
كثيرة تلك البدايات التي رحلت منذ القدم، وشاركت الأولين حماسهم وصخبهم، وبحثهم حتى في قيعان النفوس الهامدة، لعلهم يحظون بابتسامة ما ترسم لهم خطًا مُضيئًا على السطور القادمة بالأمل والحب.