قضايا وأحداث.. تاريخ الأمة في الأروقة الأكاديمية وميدان المقاومة
في الدوحة وأثناء التجهيز لجنازة إسماعيل هنية التي شهدتها أعداد غفيرة من المُسلمين من الشرق والغرب، والتي ذكرتنا بجنازة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي التي شارك فيها إسماعيل هنية قبل سنتين، وقال حينها: «نُجدّد لك يا شيخنا أن نسيرَ على العهد، لا تفريط بشبر واحد من أرض فلسطين، وسنستمر في جهادنا ومقاومتنا»، تلقينا بحزن شديد نبأ وفاة الأستاذ الدكتور ميكائيل بَيْرام ذي الدور البارز في التأريخ لعصر السلاجقة، الذي ظلّ يتلقى العلاج فترة طويلة. وفي الحقيقة إنه كان خبرًا مؤثرًا، وفي نفس اليوم رجعنا من الدوحة وغبار المقابر لا يزال عالقًا بنا، ومباشرة توجهنا إلى مدينة قونية لتوديع الأستاذ بيرام إلى مثواه الأخير. وفي الجنازة لم نتمكن من إخفاء الروح التي عدنا بها والمشاعر والدعوات التي ظلّت تتردد في أذهاننا وصدورنا خلال جنازة إسماعيل هنية. الأمر الذي جعل مشاعر الأشخاص الذين حضروا جنازة الأستاذ بيرام تختلط بدعواتهم لإسماعيل هنية وأستاذهم المؤرخ المحبوب ميكائيل بيرام.
فكما كان هنية على قائمة الاغتيالات منذ زمن طويل نتيجة دوره الفعّال في المقاومة، كان الأستاذ بيرام من أعظم من تعرفت عليهم وشاركت في جلساتهم وحواراتهم، لا سيما في جامعة سلجوق بقونية. بالإضافة إلى الأستاذ المُفسّر سعيد شيمشك الذي وافته المنية في ثاني أيام عيد الأضحى الماضي. لتفقد قونية نَجمين عظيمين في مجال العلم والمعرفة، واحدًا تلو الآخر.
فإسماعيل هنية ومن سبقه كانوا يصنعون تاريخ النصر ويُحيونه في قلوب المُسلمين، وكان الأستاذ ميكائيل بيرام أستاذًا في قسم التاريخ، وكان يُعد مرجعًا فريدًا في تركيا فيما يتعلق بالدراسات السلجوقية وتاريخ السلاجقة العظماء. بجانب درايته الواسعة باللغة البهلوية الساسانية واللغة العثمانية، ما جعله يمتلك الكفاءة اللازمة لدراسة تاريخ العصور الوسطى، ودراسة آلاف المخطوطات التاريخيّة.
وهكذا عاش الرجال يحملون ذاكرة الأمة وماتوا وهم ينشرون الوعي. فعلى الجانب العملي المَيداني أعاد هنية ورفاقه ذاكرة الجهاد والنضال والقدرة على تحقيق النصر بعد الوهن الذي أُصيبت به الأمة في كافة الصُعُد. وعلى الجانب العلمي الأكاديمي كانت ذاكرة الأستاذ بيرام حافظةً قويةً للتاريخ وجوانبه الاجتماعيّة والثقافيّة والدينيّة لعصر السلاجقة والتيارات المُختلفة في تلك الفترة كالمولوية والقلندرية والحروفية، وتأثيرها في السياقات الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. كما كان له دور بارز في التعريف بتفاصيل أنشطة المغول خلال فترة ضعف الدولة السلجوقية. ولم تتوقف دراساته على السلاجقة فقط، بل امتدّت إلى التاريخ الإسلامي من بدايته كعصور الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين، حيث قدّم بحوثًا ودراساتٍ رائدةً واكتشافات مُبتكرة حول الاضطرابات السياسيّة في تلك العصور. وكان لديه اهتمام خاص بتاريخ إيران القديم، حيث تعمق في دراسة الزرادشتية، والأفستا، والهدانمة، والمزدكية، والبارسية، مُستندًا إلى المصادر الأصلية والمخطوطات، وأحيانًا بزيارات مَيدانية. وخلال إحدى رِحلاته إلى إيران في الستينيات، التقى بالخميني وتعرّف عليه، ودرس أفكاره. كما كانت تربطه عَلاقة صداقة شخصية بأستاذ الشعر الفارسي والتركي الكبير الشاعر شهريار الذي كتب له العديد من القصائد. وكان الأستاذ ميكائيل شاعرًا مُتمكنًا في العروض، ويمتلك ذوقًا رفيعًا في الأدب وله ديوان أسماه «سراي».
لا يسع المرء هذه الأيام إلا أن يُعيدَ قراءة آثار هؤلاء الأعلام العاملين على نهضة الأمة والذود عن تاريخها وحاضرها من أجل مُستقبلٍ مُشرقٍ للأجيال القادمة. والرصيد المعرفي المَيداني والأكاديمي الذي خلفه من سار على هذا الدرب في الغالب يتعلق بقضايا مُثيرة للجدل وكاشفة لحقائق سعى أعداء الأمة كثيرًا لتحريفها وتغييبها عن أيدي النشء. ولهذا على الأمة أن توفرَ فريقًا يستفيد من هذه الكنوز ويُعطيها قيمتها الحقيقيّة وينقلها بأمانة وتجرّد ويستخلص منها مفاتيح النهضة والتقدّم والنصر، ويُقيم دورات تربوية وتثقيفية للتعريف بالأعلام والمفاهيم التي تُعاني من الخلط والتزوير في عالم التواصل الاجتماعي الذي انشغل به الشباب في هذا العصر.
فالحقيقة إن إسماعيل هنية وعبد العزيز الرنتيسي وأحمد ياسين وغيرهم من المجاهدين إلى جانب الدكتور يوسف القرضاوي وميكائيل بيرام وسعيد شيمشك، ولا أدعي هنا حصر الأسماء، بل هناك كثيرون غيرهم من العلماء المُسلمين في المشرق والمغرب في العصر الحديث، كل هؤلاء صاغوا لنا التاريخ واجتهدوا في إزالة غبار الحداثة عن تراث الأمة ليُقدّموه صافيًا خاليًا من مزاعم المُستشرقين الذين يعملون لحساب الاستعمار ويتخفون تحت ستار البحث العلمي، في حين أنهم سلاح حرب باردة ومقدمة لحرب الدمار ومجازر الإبادة الجماعيّة التي يعيشها أهل غزة من أكثر من 300 يوم وغيرهم من المُضطهدين في مناطق عديدة من العالم.
اللهم ارحم الذين بذلوا أنفسهم في خدمة الدين والأمة، وارزق هذه الأمة من يجمع صفها ويُعيد وَحدتها ونهضتها بإخلاصٍ وتفانٍ.
أكاديمي وسياسي وكاتب تركي