وافق يوم الأربعاء الماضي 14 أغسطس 2024 الذكرى السنوية الثالثة والعشرين لتأسيس حزب العدالة والتنمية الذي تأسس بعد أحداث 28 فبراير بكل غطرستها وعدوانيتها والتطلع لاستمرارها في تركيا لأكثر من 1000 عام على حد تعبير زعمائها في ذلك الوقت.
فبعد إغلاق حزب الفضيلة الذي جاء بعد حزب الرفاه الذي تم إغلاقه أيضًا على إثر هذه العملية جاء العدالة والتنمية الذي تم منع مؤسسه رجب طيب أردوغان من ممارسة السياسة نتيجة الحكم عليه بالسجن بسبب قصيدة، واعتقد كثيرون أن حزبه لن يبقَى طويلًا نتيجةً لتهديدات 28 فبراير التي كانت لا تزال سارية.
في الواقع كان أمر 28 فبراير/شباط محاولةً لاستعادة الديكتاتورية العلمانية التي استمرت طوال 80 عامًا، مع جهود يائسة لنظامها المتغطرس لإعادة إنتاج نفسه والبقاء على قيد الحياة، رغم استمرار غطرسته وعداوته لشعبه، ولذلك جاءت هذه المحاولات ضد قواعد علم الاجتماع، وتضمنت جهلًا عميقًا وتعصبًا أيديولوجيًّا عقيمًا. ولهذا كانت تركيا التي يحكمها هذا التعصب الأيديولوجي في أزمة خطيرة من الفساد وسوء الإدارة والظلم والقيود في كل النواحي، وتوالت الانقلابات تحت ذرائع أيديولوجية.
فرصة عظيمة لحزب العدالة والتنمية
جاءت الكوادر المؤسسة لحزب العدالة والتنمية بقيادة جديدة ودوافع أيديولوجية ومشاريع منبثقة عن هذه الأزمة. ورأى الشعب القابع تحت سيطرة التعصب الأيديولوجي لـ 28 فبراير/شباط وعدم كفاءة الإدارة، بوضوح إمكانية تمثيله في هذا الكادر الجديد، وبعد 15 شهرًا فقط من تأسيس الحزب صار في السلطة منفردًا. ونجح في إيجاد حلول قوية للغاية لأزمات البلاد، ولذلك جدَّد الشعب التركي ثقته به في الانتخابات المتعاقبة، لدرجة لم يصل إليها أي شخص في تاريخ الديمقراطية. مما ساعد الحزب في تنفيذ الإصلاحات والمشاريع الأكثر فاعلية ونجاحًا في تاريخ البلاد. وصار وكوادره أقرب إلى الشعب وقويت العلاقة بين الدولة والأمة، وتمكن من رفع مستوى البلاد بالكامل في كافة المجالات.
واليوم يتم إعادة إحياء جزء كبير من حالات الأزمات التي عاشها حزب العدالة والتنمية قبل 23 عامًا، وتكرارها في ظروف جديدة حتى صارت على رأس قائمة أكبر المشاكل التي يواجهها الحزب الآن.
ففي مجال الصحة على سبيل المثال أنشأ حزب العدالة والتنمية بنية تحتية ربما تكون الأفضل ليس فقط في تاريخ تركيا ولكن أيضًا في العالم كله. كما أنشأ نظامًا يعمل بكفاءة عالية مع هذه البنية التحتية. ومع ذلك بدأت تظهر حالة من عدم الانتظام لا تتفق مع كل هذه البنية التحتية القوية. فالبيانات الميدانية التي تم جمعها من المرضى الذين يتقدمون إلى النظام الصحي بدأت تُظهر أن هناك اضطرابًا خطيرًا وعدم رِضا لدرجة أن المساحة التي اعتبرها حزب العدالة والتنمية أكبر فرصة له في الانتخابات الأخيرة أصبحت فجأة أضعف نقطة لديه.
وفي مجال التعليم مع وصول عدد الجامعات في تركيا إلى 208 جامعات أصبحت تركيا دولة جامعية كاملة. كان هذا لا يمكن تصوره من قبل، لكن هذه الوتيرة أدت أيضًا إلى تغييرات عميقة في المجتمع. ففي نهاية جميع السياسات التعليمية التي اتخذتها حكومات حزب العدالة والتنمية وإعطاء الأولوية للتطوير، ظهرت آثار خطيرة على الأسرة والحياة العملية والثقافة الروحية بشكل كبير. وسيتطلب تشخيصها وعلاجها بحثًا اجتماعيًّا جادًّا وسياسات جريئة.
وفي مجال البيروقراطية كان أهم ادعاء ونجاح لحزب العدالة والتنمية منذ البداية هو أنه طرح ممارسة حكم سياسي أكثر فاعلية ضد البيروقراطية. ومع ذلك يبدو أن البيروقراطية قد تولت زمام الأمور تدريجيًّا، ووصلت إلى ما كانت عليه في الماضي بشكل كبير، لدرجة أن الثقافة البيروقراطية قد أثرت بدورها السلبي في تعقيد الاستثمارات والمبادرات وحتى الحياة اليومية للمواطنين.
وفي مجال العدالة الذي كان فيه حزب العدالة والتنمية أكثر حزمًا -ويجب أن يكون دائمًا- لم يتم إحراز تقدم يُذكر فيه، ولكن كما هو الحال في البيروقراطية، أصبحت العدالة واحدة من أكبر نقاط الضعف في حكومة حزب العدالة والتنمية بسبب التأخيرات والطرق والآليات المعقدة في البيروقراطية القضائية. فأهم مثال للسياسة الإسلامية هو في الأساس إنشاء آلية عدالة نزيهة يمكن مراعاة موضوعيتها حتى لو كانت ضدنا.
ولهذا يجب أن يكون هناك قدرٌ كافٍ من الدراسات الاستقصائية والمقابلات وجهًا لوجه مع الدراسات الميدانية. ولا يوجد خيار سوى التمسك بالأسباب التي أبقت حزب العدالة والتنمية في السلطة وحده لمدة 22 عامًا.
أكاديمي وسياسي وكاتب تركي
@yaktay