كتاب الراية

قضايا وأحداث.. شعوب المنطقة.. بين التنظير والواقع المأساوي

أَيُّهَا الزَّاعِمُ مَهْلًا أَنْتَ بالْأحْدَاثِ غِرُّ…
عندما يتعلق الأمر بمِنطقة الشرق الأوسط، وخاصة بسوريا والسوريين في السنوات الأخيرة، لا يتوقف أحدٌ عن الصياح والإدلاء بالتصريحات والتحليلات، سواء أكان معنيًا بالحديث أم لا. يصبح الجميع محللين للواقع والحاضر والمستقبل. بل إن الواقع يتعدى مساحة التحليل إلى الحكم على كل الأطراف بحسمٍ وصرامةٍ، وكأنهم لا يتحدثون عن بشرٍ مثلهم، بل عن جمادات لا روح فيها. ودون أدنى اهتمامٍ أو وعي، تجدهم يصنعون مصائر شعوبٍ بأكملها. وفيما يتعلق بالشأن السوري يتشدق أمثال هؤلاء بأن الاتفاقات الدولية هي الحل السحري القادر على محو الآلام والمعاناة والمشكلات التي عاشها الشعبُ السوري على مدار 13 عامًا، ولا يزال.
ومن التصريحات التي اعتدنا سماعها «على السوريين أن يرحلوا» أو «ليبقوا لكن بشروط». وكلها تصريحاتٌ تتناسى السوريين وتاريخهم وحياتهم ووجودهم، بكل مقوماتهم. وكل ذلك في الحقيقة من نتاج الغفلة والإهمال والاستهتار بالآخرين ومقدراتهم، وابتعاد الإنسان عن إنسانيته في حالةٍ مأساويةٍ تعيشها البشرية اليوم.
وفي محاولةٍ للخروج من مأساة التنظير إلى الواقع بعد أن تسارع الجميع لإصدار الأحكام والحلول الهلامية بشأن السوريين، كان من الضروري إتاحة الفرصة للاستماع إلى أصحاب المشكلة والحديث معهم، بهدف المساهمة في بناء المجتمع العلمي السوري وتشجيع الحوار الأكاديمي الحر عبر إتاحة الفرصة للباحثين السوريين للتعارف والتواصل وتبادل الخبرات والآراء حول القضايا ذات الاهتمام المشترك. وهكذا تتوفر لهم بيئة حرة تسمح لهم بعرض مشاكلهم ومناقشة قضاياهم ومعالجة أوضاعهم بمنظور علمي اجتماعي واقعي في موضوعيةٍ ونقدٍ بنَّاءٍ، بعد معاناةٍ وتضييقٍ في حرية التعبير، ليس فقط في آخر 13 عامًا، بل على مدار 60 عامًا.
وفي أحد اللقاءات التي تمَّ تنظيمُها في هذا الإطار تحت عنوان «الثورة السورية بين المصالحة الوطنية والاستمرارية»، تمَّ عرضُ وتحليلُ نتائج بعض الاستطلاعات التي أُجريت مباشرة مع الشعب السوري، التي أكدت على أن تفاقم المشاكل في الداخل السوري على مستوى العلاقة بين النظام والشعب، وكذلك العلاقات بين مختلِف شرائح المجتمع السوري، هو نتيجة لا مفر منها بعد ما شهدته سوريا والسوريون من أحداث قتلٍ وتدميرٍ وتشريدٍ على مدار 13 عامًا. ما جعل طرح موضوع المصالحة الوطنية لا يقتصر على المصالحة بين النظام والشعب، التي لا توجد أي بوادر على إمكانية تحقيقها، بل إنه في المقام الأول محاولة لتحقيق المصالحة بين مختلِف فئات الشعب السوري، عبر إطار دستوري يكفل حقوقَ الجميع وحرياتهم وكرامتهم وسلامتهم.
فالنظام السوري ما زال مُستمرًا في القمع والتهجير، ولمواجهة ذلك يستمر الشعب في الاحتجاج بقوةٍ في مناطق سيطرة النظام، كما في مِنطقة السويداء. وهذا يوضح المعنى الحقيقي وراء بعض الهدوء الذي تشهده مناطق أخرى في الداخل السوري، إلى جانب حقيقة التلاعب بنتائج مسرحية الانتخابات التي جاءت هزليةً بإعلان تأييد 99% من الشعب للنظام القمعي. وهذه صورةٌ مأساويةٌ كافيةٌ للكشف عما قد يقوم به النظام تجاه الشعب، لا سيما الذين تمكنوا من الفرار من أشكال الموت المختلفة، إذا أُجْبِروا على العودة إلى مناطق سيطرته.
وفي زاوية أخرى من الصورة يتم طرح شرط انسحاب القوات التركية لقَبول عودة السوريين، وهذا يكشف عن الفاجعة التي تعني أن هذه عودة للموت لا غير. لذلك من الضروري تحرير المزيد من الأراضي السورية من سيطرة النظام قبل العودة أو انسحاب القوات التركيّة.
وإذا ركزنا الحديثَ على سبيل المثال على مِنطقة حلب التي يشكل المتواجدون في تركيا أغلبية منهم، فإن مصلحة السوريين وجميع الأطراف المعنية تستدعي إعلان حلب مِنطقةً آمنةً تحت إشراف الأمم المُتحدة، لتكون خارج سيطرة النظام أو روسيا أو حتى تركيا، ولتمكين السوريين الذين نزحوا من حلب من العودة إلى ديارهم بأمانٍ وبكامل حقوقهم. وهذا حلٌّ يمكن تحقيقه تدريجيًّا حتى التوصل إلى حلٍ نهائي يرضي الجميع، وهو حلٌ أكثر منطقية وأفضل لضمان وَحدة الأراضي السورية وتحقيق السلام الإقليمي، وضمان الأمن والاستقرار لشعوب المنطقة. ففي العام الأخير من معاناة السوريين عاشت المنطقة معاناة أخرى وإبادة جماعية وحشية في غزة على مرأى ومسمع من العالم، ومن بعدها في السودان، وقد شهدنا في بداية الأحداث إلقاء التهم على الشعوب التي تدافع عن أرضها وممتلكاتها ومحاولة بائسة للعبث بمصائرهم. ولكن سرعان ما استفاق الضميرُ العالمي، ولعلها خُطوة لتصحيح الأوضاع في المِنطقة كلها، لا سيما في مناطق الصراعات والإبادة في غزة وسوريا والسودان.

أكاديمي وسياسي وكاتب تركي

@yaktay

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X