بيني وبينك.. الموت ولا المذلّة
إنه شعار الأحرار، لا ينزلون على الذل، ولا يقبلون بالضيم، وفي سبيل الكرامة يستعذبون كل ألمٍ ويُقبلون بلبّاتهم على مناياهم كأنها أمنياتهم، ويكون أمر التضحية عندهم حينئذٍ سهلًا مأنوسًا.
إن هذا المعنى يتطلب شجاعة، وإن الشجاعة تتطلب إقدامًا، وإن النفس لتتردّد بين إقدامٍ وإحجامٍ، حتى يقسرها على الأولى مَن عادت إليه طبيعتُه، كما فعل عبد الله بن رواحة في معركة مؤتة: (أقسمتُ يا نفسُ لتنزلنّه).
وإن هذه النفس الأبيّة لا ترتبط بدين أو شرع في الأصل، وإن كان الدين والشرع يُقوّيانها ويمدّانها بالحيوية والحرارة، ولكنها ترتبط بالكرامة، وبالمروءة، وبالغَيْرَة، وإقامة النفس مقامها الذي تستحق من السمو والشرف، والدليل على ذلك كثير، وأضرب مثلًا لذلك بالجاهليِّين: عنترة بن شداد والشنفرى والسموأل بن عادياء اليهودي، فأما الأول ففضّل الجحيم مع الكرامة على الجنة مع الذل؛ فقال:
لا تسقني ماءَ الحياة بذلّةٍ
بل فاسقِني بالعِزّ كأسَ الحنطلِ
ماءُ الحياة بذلّةٍ كجهنّمٍ
وجهنّمٌ بالعزّ أطيبُ منزلِ
وأما الشنفرى فسمّى نفسه التي تأبى الهوان نفسًا مُرّة، فقال:
ولكنّ نفسًا مُرّةً لا تُقيمُ بي
على الضّيمِ إلا ريثما أتحوّلُ
وأمّا السموأل فعزّتُه قدّمتْه إلى الموت راضيًا، ووفاؤه دفع ثمنَه حياةَ ابنه، فقال:
يُقرّبُ حبُّ الموتِ آجالَنا لَنا
وتكرهُه آجالُهم فتَطُولُ
وهكذا تكونُ الحميّة والعزّة، وهكذا تكون الكرامة، ولم أجد هذا المعنى متأصلًا عند أحدٍ من هؤلاء الشعراء الفحول أكثر منه عند المتنبي، فلقد كادت نفسه الأبية تُوردُه موارد الهلاك غير مرّة، وهو الذي هوّن من شأن الموت إذا كان يدفعُه إليه إباؤه وعنفوانه، ليخرج بهذا من دائرة الجُبناء فقال:
وإذا لم يكنْ من الموت بُدٌّ
فمن العار أن تموت جبانا
وهو الذي قال من قبلُ رافِضًا أن يلبس المرء ثوب الذلّ ويقبل أن يعيشَ به، وجعل الذي يلبسه ميّتًا وإن قام وقعد، وشرب وأكلَ، وراحَ وجاء:
لا يُعجِبَنّ مَضِيمًا حُسْنُ بِزّتِهِ
وهل تروقُ دفينًا جودةُ الكَفَنِ؟!
وأهل غزة من هذا الصنف الشُّجاع، والمقاومون من هذا الضّرْبِ الأبيّ، رفضوا الهوان، وتنكّبوا الدروب التي تقودُ إليه مهما كانت مُزخرَفة مُزيّنة، ومهما مُدّ لهم فيها من البُسُط، ودفعوا لأجل ذلك أثمانًا باهظةً، وما زالوا يدفعون، ومن باع حياته في سبيل كرامتها فقد رَبِحها.
AymanOtoom@