قضايا وأحداث.. التاريخ مرآة الواقع من غزة إلى جناق قلعة
تعيشُ معظمُ دول المنطقة في شهر سبتمبر من كل عام بداية عام دراسي جديد. وفي تركيا كانت بداية الدراسة في يوم الإثنين2024.9.9، وكان موضوع الحصة الأولى في كل المراحل الدراسية ذا طبيعة خاصة، وهو «حرب الاستقلال من جناق قلعة إلى غزة» حيث شاهد كل الطلاب في المدارس فيلمًا وثائقيًّا عن معنى الوطن والكفاح من أجل استقلاله، وتناقشَ المُعلمون مع طلابهم حول رموز النضال في الماضي والحاضر، في خطوة شجاعة وحاسمة غاية في الأهمية من وزارة التعليم التركية -رغم ما لاقته من انتقادات واعتراضات من بعض الأوساط- لمساعدة الأجيال الناشئة على إدراك أنفسهم ودينهم وأمتهم وتاريخهم، إدراكًا صحيحًا. ولا عجب من وجود مثل هؤلاء المُعترضين، فمِن الواضح جدًّا مَن يخدمون وإلى ماذا يسعَون.
وقد جاءت هذه الخطوة في ضوء أن تكون الجرائم اللا إنسانية -التي ما زال المحتلون الإسرائيليون يرتكبونها في غزة منذ قرابة عام- قضيةً ذات أولوية لكل من لديه ذرة إنسانية. أما الذين لا يرون الأمر بهذه الصورة فإنهم في الحقيقة شركاء في جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها الإسرائيليون أو على أقل تقدير غافلون ومُضلَّلون. وفي كلتا الحالتين، ليس لديهم ما يبررون به موقفهم أمام أي شخص.
وبالطبع فإن استياء هؤلاء من ربط غزة بجناق قلعة باعتبارهما رمزين يجسدان النضال من أجل الاستقلال وحب الوطن، يكشف مدى غربتهم عن روح الكفاح وحالة جناق قلعة التي يدَّعون ارتباطهم بها. فلم يدركوا أن غزة رغم بُعدها الجغرافي تُجسِّد هي الأخرى روح الاستقلال التركي. إنهم لا يعرفون أنفسهم حتى يعرفوا فلسطين، ولا يفهمون جناق قلعة ليفهموا غزة. إنهم يجهلون أن الدفاع عن الوطن في جناق قلعة هو نفسه في غزة. كما أنّهم لا يعلمون أنَّ الجيش البريطاني قد واجه مقاومة بطولية في غزَّة مرتين قبل أن يتمكن من السيطرة عليها في هجومه الكبير في المرة الثالثة في نوفمبر 1917. ويجهل هؤلاء أن سبب سقوط غزة ليس فقط قوة الجيش البريطاني، بل إن الصراعات الداخلية وعدم الانضباط في الجيش العثماني كانا السبب الرئيسي في ذلك. وهذا بدوره يعني ضرورة تذكيرهم بأن قوات العدو قد عبرت مضيق الدردنيل وسقطت جناق قلعة بعد عام واحد من سقوط غزَّة.
كانت غزة تمثل حائط الدفاع الأول عن جناق قلعة، وكانت جزءًا لا يتجزأ من الوطن، ولم يكن أهل غزة فقط هم من يدافعون عنها بل كان الجيش يضم من جاء من الأناضول والبلقان ومناطق جغرافية عربية أخرى للمقاومة وصد العدوان. ومع الأسف، انتشر الخونة في كل مكان في غزة. فالحرب لا تخلو من الأبطال والتضحيات كما أنها كذلك لا تخلو من الخونة، لكن اتخاذ الخونة ذريعة لتمزيق الأمة وإقامة حدود تدمر نسيجها، وإثارة الكراهية والبغضاء بين الأصدقاء والإخوة، هو الخيانة بعينها، ودليل واضح على استمرار سيطرة القوى التي قادت الأمة للحرب داخليًّا وخارجيًّا وأدت إلى فقدان جزء كبير من الوطن.
وللأسف، لم تنشغل نُظمنا التعليمية على مدار قرن من الزمن بتوحيد الأمة وتقريب المسافات وتعزيز المحبة بين مُختلف فئاته، بل سعت إلى خلق فجوات بين أبناء الوطن الواحد، وتركيز الأنظار على أعداء وهميين بدلًا من الأعداء الحقيقيين الذين يهددون وجود الأمة. فهناك خطابات استمرت لسنوات طويلة في ترسيخ الفُرقة بين مكونات الأمة، وتجاهُل التلاحم بين العرب والكُرد والهنود المسلمين الذين قاتلوا واستشهدوا في صفوف جيش الدولة العثمانية في جبهات مُختلفة، مثل جناق قلعة وفلسطين والعراق. كما أنها خطابات تكيل بمكيالين، كمن «يرى القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسِه» . فتنشر العداء بين العرب والأتراك والأكراد بعضهم بعضًا، بل وحتى بين مكونات كلٍّ منهم، ولا تذكر عوامل الإخفاق الأخرى في الأمة كاليهود الذين كانوا يعيشون تحت راية الإسلام والذين فرَّ كثير منهم إلى الدولة العثمانية بعد معاناتهم من الإبادة الجماعية لهم في أوروبا. وقد خان اليهودُ الجيش العثماني في معارك مثل جناق قلعة وغزة، وتعاونوا مع أعداء الدولة. وكان لهذه الخيانة تأثير كبير على مجريات الحرب وسبب رئيس في الهزيمة وسيطرة اليهود وداعميهم على فلسطين وارتكاب جميع الجرائم في المنطقة حتى يومنا هذا.
ولهذا فإن تجاهُل هذه الخيانة المدمرة، وتحديد الأصدقاء والأعداء وفقًا للرؤية الإسرائيلية التي تؤجج العداء بين عناصر الأمة لصالح مشروعها، دليل واضح على فقدان بوصلة التاريخ. ولهذا فالخطوة الأولى لتصحيح هذا الوضع هي إعادة استيعاب التاريخ وكتابته بمصداقية وعدالة، والتخلي عن القصص الأسطورية التي لا أساس لها من الصحة، واستلهام الدروس من الحقائق التي تجري أمام أعيننا؛ لنتمكن من إعداد جيل قادر على صياغة ملحمة وطنية حقيقية وجمع شتات الأمة.
أكاديمي وسياسي وكاتب تركي
@yaktay