بيني وبينك.. خُبزٌ ودَم
يسير في شارعٍ لم يعدْ شارِعًا لكثرةِ ما أصابَه من رَدم، وما تجمّع فيه من هَدْم، باحِثًا عن حفنةٍ من طحين لأجل عائلته الّتي تتضوّر من خلفِه جوعًا، حفنةٍ واحدةٍ يُمكن أنْ تُبعِدَ شبحَ الموت ثلاثةَ أيّامٍ أُخرى!
ولكنْ أينَ يجدُ هذه الحفنة؟! قيلَ له هناك، لو اتّجهتَ شَمالاً ستجدُ بقايا من الطّحين سقطتْ من شاحنة عابرة، كانتْ قد فرّغتْ حُمولتَها في الجنوب ومضت لأجلِ حمولةٍ أخرى. وإذًا فبقايا ما تناثَر من الطّحين على التّراب هو الغاية.
إنّه أمرٌ صعبٌ، كيفَ يُمكن أنْ أُخلّصَ الطّحين من التّراب؟ يسأل نفسَه. ثُمّ يبتسم قليلاً ويهتف: ماذا لو لم أُخلِّصْه تمامًا، لا بأسَ من بعضِ الّتراب مع الطّحين، إنّه سيكون خبزًا ترابيًّا، يبتسم أكثر ويهمس: ولكنّه قد يفي بالغرض. وإنّ الطّحين ولو كان خيطًا رفيعًا فإنّه أشبهُ بخيط الحياة، وعلَيّ ألاّ أجعله ينقطع من أرواح بناتي الثّلاث الصّغيرات.
يسيرُ بهمّة، ينظر في التّراب أوّل مسيره، يبحثُ عن ذرّات الطّحين وسطَ هذا التّراب الّذي لا ينتهي، يا إلهي هذا أمرٌ مستحيل، لكنّ الأمل يحدوه، لعلّ الشّاحنة أسقطتْ دُفعةً بقدر حجم اليد أو أكبر فكان اختِلاطُها بالرّمل لا يُفنيها بالكامل أو يُبعثرها، حينئذٍ يُمكن جَمْع الطّحين، ووضعه في الكيس الصّغير الّذي يضعه في جيبه، وسيسير مسافةً أخرى لعلّه يجدُ مثلها، وهكذا… يحُدِّث نفسَه: لو قضيتُ اليوم كلّه في البحث عن حفنات الطّحين المختلطة بالتّراب فسأعودُ سعيدًا بِما يُمكن أنْ يصلح لِخَبزةٍ واحدةٍ على الأقلّ، لن أشغل نفسي الآن بكيفيّة تأمين الماء للعَجن، والحطب لإيقاد النّار، سأتدبّر أمري حينها.
سارَ طَروبًا، يُمنّي نفسَه وعائلته بأرغفةٍ ناضِجة شهيّة حارّة تفوحُ منها رائحة الحياة، كان قد مضى على مشيِه ساعةٌ أو أكثر حين سمع صوت (الكواد كابتر) تحلّق فوقه، ليسَ سِرًّا أنْ يعرفَ أنّ الموتَ صارَ وشيكًا، وصارَ أقربَ إليه من شِراك نَعلِه، الطّائرة لا تُحلّق فوقه على هذا الارتفاع المنخفض إلاّ لكي تُرسِلَ إليه الموت في لحظةٍ غادرة لا يستطيع التّنبُّؤ بها. لكنْ مهلاً، هناك احتماليّة للنّجاة، ليس كلّ طائرات (الكواد كابتر) تقصفُ مَن تُحلّق فوقَه! لكنْ مهلاً مرّة أخرى، وكم نسبة النّجاة في هذه الحال؟ أقلّ من واحدٍ بالمِئة، أجابَ نفسه، ثُمّ أردف: إنّها كافية لأغامر من أجل بناتي الجميلات. سارَ بهمّة أكثر ولا زال طنين الطّائرة يصكّ أذنَيه، رأى من بعيدٍ حفنةً كافيةً من أجل أنْ يأخذها ويعود بهذه الغنيمة، ركضَ خطوته الأولى باتّجاهها، صارتْ قريبة، ركضَ الثّانية، صارتْ أقرب، في الثّالثة مَدّ يده فمدّتْ له الطّائرة يدَ الموت، سقط بصدره على حفنة الطّحين، سالَ دمُه، عَجَن به الحفنة، صارَ بإمكان أطفالِه الآن أنْ يأكلوا خبزًا مغموسًا بدمِ أبيهم.
AymanOtoom@