متى سنفعّل مشروع الأمن القومي العربي؟
بقلم/ د. علي محمد فخرو:
دعنا نذكّر أنفسنا بأنه في عام 1950، أي قبل ثلاثة أرباع القرن قرر مجلس الجامعة العربية توقيع معاهدة الدفاع المشترك التي تنصّ على أن أيّ اعتداء يقع على أيّ من الموقعين يُعتبر اعتداءً على كل الموقعين، وبالتالي يبادر الجميع على إعانة الدولة المعتدى عليها، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية لردّ ذلك الاعتداء. بل أضاف الموقعون مادة بالغة الأهمية تقول بأنه في حالة أية أخطار دولية مفاجئة يقوم الموقعون بتوحيد خططهم لاتخاذ التدابير الوقائية لمواجهة ذلك الخطر. وأنشؤوا لجنة عسكرية مشتركة من أركان حرب الجيوش الأعضاء لتنظيم كل ذلك وتنفيذه، كما أنشؤوا مجلسًا للدفاع المشترك من وزراء الخارجية ووزراء الدفاع الوطني.
كانت هناك إرادة سياسية عربية قومية واحدة تؤمن بأن كل خطر أو عدوان على أي قُطر عربي إنما هو خطر على الجميع. كان حلم الوطن العربي الواحد المتضامن يملأ القلوب والعقول.
من هنا كان قرار مؤتمر القمة العربي الأول في عام 1964 بإنشاء قيادة عامة موحدة لقوات الدول العربية، وقرار مؤتمر القمة الثالث عام 1965 بتوقيع ميثاق التضامن العربي الذي أكد على أهمية التضامن العربي في معالجة القضايا العربية وعلى الأخص مواضيع مثل تحرير فلسطين وسيادة الدول العربية والرفض التام لأي تدخّل في شؤونها الداخلية. وأخيرًا، وبضرورة مكمّلة، وتأكيدًا على أن الأمن القومي لا يتمثّل فقط في الجانب العسكري، أضاف مؤتمر القمة الحادي عشر في عام 1980 ميثاق العمل الاقتصادي القومي العربي.
ولكن وابتداءً من ذلك العام بردت الهمم، وتوقفت أحلام الأمة الكبرى، وأضعفت حيوية ومبادرات الجامعة العربية ومؤتمرات القمم العربية، فكان أن توقف الحديث عن الأمن القومي العربي بكل أشكاله ومستوياته. الآن نقترب من مرور نصف قرن ونحن نعيش كل الأهوال الناتجة عن ذلك التوقّف المأساوي في مسيرة هذه الأمة المشتركة.
اليوم نقف أمام مشهد عربي مفجع جديد: بعض من الأقطار العربية الرئيسية دمّرت، وبعض من الأقطار أصبح مستباحًا في كل جوانب حياته، وبعض تمزقه الصراعات الداخلية العنيفة المجنونة باسم دين الإسلام الحنيف، وبعض تراجع في مستواه الحضاري عدة قرون إلى الوراء وهاجر ملايينه إلى المنافي، وعاد الاستعمار الغربي إلى البقع التي أجبرته قوى التحرير والاستقلال العربية على تركها فقط منذ بضعة عقود، وأصبح الاحتلال الإسرائيلي الذي اعتبر سابقًا رسميًا في كل الاجتماعات العربية بأنه يمثل التهديد الرئيسي للأمن العربي القومي يلعب دورًا رئيسيًا مهيمنًا ومطاعًا في الحياة العربية كلّها والآن يمارس حرب إبادة وتدمير في غزة العربية وجنوب لبنان العربي وفي سوريا والعراق واليمن، ويهدد قادته يوميًا بإزالة شعوب وأقطار عربية أخرى من الوجود. يحدث كل ذلك بينما تقبع في الأدراج كل القرارات والمواثيق والاتفاقيات التي وقّع عليها كما ذكرنا سابقًا من قبل رؤساء كل الدول العربية، تقبع منسية ولا حتى يشار إلى إمكانية نفض الغبار عنها في أي من اجتماعات الجامعة العربية أو مؤتمرات القمة العربية أو غيرها من الاجتماعات مع الدول الإسلامية الكثيرة. حلّ محلّ شعار الأمن القومي المشترك شعار السيادة الوطنية التامة لكل قُطر على حدة، وأصبح الخلاص الذاتي هو الهدف الذي لا يعلو عليه أي هدف آخر.
في هذه اللحظة التي يموت فيها الآلاف من عرب فلسطين وجنوب لبنان على يد جيش ومستوطني الاحتلال الإسرائيلي بصور مأساوية إجرامية لم يعرف تاريخ البشرية مثيلًا لها، لا نسمع عن دولة عربية واحدة، نعم فقط دولة عربية واحدة، تتقدم إلى الجامعة العربية أو القمة العربية باقتراح مناقشة موضوع الأمن القومي العربي، والنظر إن كان من الممكن تفعيل أي بند من بنوده. لكأن موضوع الأمن القومي العربي قد أصبح يرقد في النّعش وأصبح عارًا على مَن يتحدث عنه. والغريب أنه حتى إبّان بعض المظاهرات الشعبية العربية النادرة التي تخرج في بعض الأقطار العربية لا يطرح هذا الشعار بصورة قوية واضحة، لكأن قوى المجتمعات المدنية العربية الشعبية قد تخلّت عن هذا الموضوع.
أسرد قصّة وتاريخ هذا الشعار القومي التحرري التضامني، الذي كانت له صولات وجولات في القرن الماضي، أطرحه على شابات وشباب الأمة العربية كجزء من محاولة إحياء الذاكرة الجمعية العربية التي يسعى الاستعمار الغربي وتسعى إسرائيل إلى طمسها ونسيان كل شعاراتها القومية الوحدوية حتى يستفرد الاثنان بكل قُطر عربي على حدة ويمارسا اجتياح كرامته واستقلاله وأمنه ليكون عبدًا طيعًا لرغباتهما وأحلامهما الهادفة لتمزيق هذه الأمة وإخراجها من التاريخ.
نحن أمام أكبر تحدّ عرفته هذه الأمة عبر تاريخها الطويل ويحتاج إلى أقوى إرادة عربية مشتركة لمواجهته.