دع الأوطان واغترب
بقلم/ سامي كمال الدين:
الأفكار والزَّمن.. صيرورة الحياة.. حقيقتُها وزيفُها.. حلمُها وواقعُها.. يترنح الإنسان بين جنبات الحياة، مؤمنًا بأفكار ورؤى، قد لا يغيّرها طوال حياته، وهو ما يعني الثباتَ والجمودَ، وركود الماء في الأنهار فيفسد، كما قال الإمام الشافعي:
ما في المُقامِ لذي عقلٍ وذي أدبِ
مِن رَاحَةٍ فَدعِ الأَوْطَانَ واغْتَرِبِ!
سافرْ تجدْ عِوَضًا عمَّن تفارقهُ
وَانْصَب فَإنَّ لَذِيذَ الْعَيْشِ فِي النَّصَبِ
إني رأيتُ وقوفَ الماء يُفسدهُ
إِن سَاحَ طَابَ وَإن لَم يَجْرِ لَم يَطِبِ
وهكذا تقلب الفكر والأفكار التي يقتنع بها الإنسان، جريان نهر التجديد فيها يَهبُها الحياة من جديد، قد تجد ناقدًا أدبيًا وكاتبًا يساريًا، وأديبًا يكتب في الشوق والحب والحنين تحول إلى مفكر يكتب عن العدالة الاجتماعية في الإسلام، ويضع واحدًا من أروع التفاسير لغةً للقرآن الكريم، كما «في الظلال».
وتجد توفيق الحكيم الهائم في جمال عبدالناصر يضع بعد رحيله كتابه «عودة الوعي» منقلبًا بالكامل على المرحلة الناصرية، وتجد محمد حسنين هيكل بعد زمن طويل في تلاقٍ مع السادات يضع عنه كتابه «خريف الغضب» وتجد أنيس منصور بعد هيام في عبد الناصر يضع عنه كتابه «عبد الناصر المفترى عليه والمفتري علينا»، وكذلك مصطفى أمين وهيكل غيّرا أفكارهما وكتاباتهما عن الملك فاروق مع مجيء جمال عبد الناصر، وثورة يوليو 1952!
ماياكوفسكي شاعر الثورة البلشفية أطلق على رأسه الرصاص لحظة اكتشافه زيف الأفكار التي حارب من أجلها، وكذلك صلاح جاهين هرب من الاكتئاب، ومن أشعاره التي تغنى بها عبد الحليم حافظ ولحّنها كمال الطويل حبًا وهيامًا في الزعيم الخالد جمال عبدالناصر «واللي هَيهْربْ مِ المِيدانْ عمره مَهَيْبانْ في الصورة» لكن كان الصدق يأتي من تجاه شاعر آخر هو أحمد فؤاد نجم، وحنجرة التعبير عن خلايا الصدق الوطني داخل الشعب الشيخ إمام «الحمد لله خَبَّطْنا.. تحت بطاطنا، يا محلا رَجْعة ضباطنا من خط النار، إيه يعني في العقبة جرينا، واللا ف سينا، هي الهزيمة تنسينا، إننا أحرار، وكفاية أسيادنا البُعدا، عايشين سُعدا، بفضل ناس تملا المعدة، وتقول أشعار، أشعار تمجد وتماين، حتى الخاين، وان شا الله يخربها مداين، عبدالجبار» هرب صلاح جاهين -بعد موت جمال عبد الناصر الذي لم يرْثِهِ كما يليق بملهم- إلى «خللي بالك من زوزو»، وأنهى الأمر بجملة واحدة» الدنيا ربيع والجو بديع قفّل لي على كل المواضيع» خلاص خلصت.. بطلنا.. توبنا إلى الله.. قفل يا حاج..
ثم انشغل بحياته ورسوماته وتزوج من جديد من منى قطان ابنة جاكلين خوري زميلته في الأهرام، وراح وجاء لكنه لم يستطع أن ينسى- مكتئبًا- لحظة اكتشافه زيف المرحلة الناصرية، فتناول جرعة حبوب كاملة كانت بجواره في المستشفى، عكس المثقف الذي يساند الديكتاتورية والاستبداد، ثم لا ضمير يصحو له!
ماريو فارجاس يوسا الحائز نوبل عام 2010 المتخبط في مواقفه السياسية اليمينية، الذي يردد دائمًا بأنه صديق إسرائيل، واستقبل شمعون بيريز واحتفى به في معرض جوادالاخارا عام 2013 بل هو مؤيّد لإسرائيل وهو عكس جابرييل جارثيا ماركيز المنحاز للشعوب الفقيرة، لدرجة أن أصحاب الأفكار والمبادئ اليسارية في أمريكا اللاتينية يردّدون دائمًا «لنا ماركيزنا ولهم يوساهم» رفضًا لمواقف وأفكار يوسا تجاه إسرائيل وتأييد الطغاة.
فالانحياز للناس، هبة وبصيرة يهبُهما الله، يجب أن نتمسك به ونسعى إليه، لا يكفي أن تكون كاتبًا كبيرًا أو سياسيًا عظيمًا، لكن يجب عليك أن يكون لديك ضمير عظيم لا ينام، أو ينبطح تحت نيْر الاستبداد.
سوف يتبقى منك موهبتُك العظيمة ومعها خيانتك للإنسانية ولشرف الكلمة أيضًا.
إعلامي مصري