بيني وبينك.. فُسحةٌ للأمل
إنّه عامٌ كاملٌ كَريتٌ من القتل المُمنهج، والتّدمير الهَمَجيّ الّذي يُعاني منه أهل غزّة، إنّه عامٌ صعبٌ لا كأيّ عام، وأيّامٌ سودٌ لا كأيّة أيّام، حُوصِرَ فيه القِطاعُ وجُوّع ونُهِبَ وسُحِقَ وبُعثِرَ وهُدِّمَ وأُبيد، ولا نصير ولا صريخ!
لو جمَحَ بِكَ الخيال لتتمثّلَ حالَ غزّة إلى أبعدِ حَدّ، فلن يصل إلى حافّة واقعِها الأليم، ولو أوتيتَ جوامِعَ الكَلِم وفصاحةَ اللغة أجمعها لَمَا قدرْتَ أنْ تفي بجزءٍ من رُعبِ ما يحدثُ هناك، فَتَصِفَهُ أو تُعبِّرَ عنه.
لقد تُرِكَتْ غَزّة وحدَها، ترى الموتَ يبتلعها بيتًا بيتًا وحارةً حارة، ويقضمُ أرواح قاطِنِيها روحًا روحًا، وكيفَ بمن يعيشُ هذه الأهوال كلّها أنْ يُؤمِنَ بعدَ ذلك بالعرب وبالجيران أو حتّى بأمّة الإسلام؟! إنّ الهول لَيَدفعهم إلى ذلك النُّكران، وإنّ صوتَ الطّغرائيّ لا يكادُ يُسمَع مع ما يعلو عليه من صوتِ الانفِجارات حينَ قال:
أُعَلِّلُ النَّفْسَ بالآمالِ أرقُبُها
ما أضيقَ العيشَ لولا فُسحة الأملِ!!
إنّه عامٌ مُثقلٌ بالأسى، فأيُّ قلبٍ يحتمل هذه الفظاعات كلّها، والنّاس الّتي كانتْ تظنّ أنّها ستنزحُ مرّة وستعود، نزحتْ عشرات المرّات ولم تَعُدْ، والنّاس الّتي كانتْ تقول إنّ بعدَ اللّيل فجرُ نورٍ يتسامَى، طال عليها اللّيل حتّى كأنّ ليالي غزّة لا نهارَ لها. فهل كان في أهلِها مَنْ يتغلّب على الألم بالأمل؟ ومَنْ يقهر الحُزن بشِقِّ تمرةٍ من فرحٍ هنا أو هناك؟ إنّه قدرٌ لا مفرّ منه، وإنّ البكاء على ما فاتَ لا يُعيده ولا يُغيّر شيئًا من حروفه المكتوبة في اللّوح المحفوظ، وإنّهم دُفِعوا إلى جدار الصّبر والانتِظار مُضطرّين غيرَ مُختارين، وإنّ الأمل لم يعدْ خيارًا من بين خياراتٍ أخرى، إنّه يبدو الخيار الوحيد الّذي لا مهربَ منه، فتراهم على ما بهم من لأواء يجدون التمسّك به عبادة، حتّى يأذن الله بالفرج، وهو عليه قديرٌ إذ إنّه: «كُلّ يومٍ هو في شأنٍ» .
وإنّهم وإنْ كانوا في سجنٍ كبير، لا يقدرون على الانفِكاك منه، كلّما فُتِحَ في جدارِه نَقْبٌ هُدَّتْ جُدرانٌ كثيرةٌ فدُفِنوا تحتها ودُفِن، وإنّهم مع ذلك كما قال ذلك السّجين الّذي يرى من بين الشّقوق الصّغيرة انبِلاجَ النّور من سجنه ذاك:
فِي السِّجْنِ فُسْحَةُ حالمٍ، ظَلّتْ أمانيهِ تَدُورُ عَلَى عَجَلْ… في السّجْنِ يَخْتَلِطُ الخَيالُ مَعَ الحَقِيْقَةِ، والحَقِيقَةُ بِالخَيالِ، كَأنَّما لَهُما البِدايَةُ والنِّهايَةُ ذاتُها، كُلٌّ يَسِيْرُ إلى أَجَلْ… في السّجنِ رُعْبُ اللّحظةِ الأُولى كَرُعْبِ اللّحْظَةِ الأُخْرى، فَمَا مِنْ لَحْظَةٍ تَمْضِي بِلا فَزَعٍ يُمزّق حُلْمَنا، وَلَقَدْ يَمُرُّ بِنا الهُدوءُ على خَجَلْ… في السّجنِ يَنْسَحِقُ الأمانُ، وَتَسْتَفِيقُ على جِدارِ القَلْبِ بُرْعُمَةُ الوَجَلْ… أَوَ كُلّما غَطّى على شُبّاكنا لَيْلٌ مِنَ اليَأسِ المُعَتَّقِ وَاسْتَطالَ تَقُولُ دامِعَةُ المُقَلْ… هَلْ مِنْ أَمَلْ؟ فَيَقُول عُصفورٌ يُنقّطُ بالعَسَلْ: أَجَلٌ أَجَلْ!!
AymanOtoom@