المنتدى

نعم للعلم… لا لثقافة الموت

بقلم/ بابكر عيسى أحمد:

سؤالٌ ظلَّ يؤرقني وهو: هل يتجهُ الوضعُ في السودان نحو الصوملة؟. والصوملة باتت تعني في القواميسِ السياسيةِ: الدولةَ الفاشلةَ وغياب المؤسسات وسلطة القانون وتحويل الأوطان إلى شظايا، وتقسيم البلاد بين سلطة المليشيات وجنرالات الحرب. وعندما يحدثُ ذلك يصبحُ الصمتُ جريمةً وتصبحُ مشاهدة ومعايشة ما يجري دون اتخاذ إجراءاتٍ حاسمةٍ جريمةً أيضًا، في حق الأطفال الذين أصبحوا بلا مأوى، والنساء الهائمات على وجوههن في الطرقات، والعجزة الذين لا يجدون رغيف الخبز أو جرعة الماء النظيفة أو ثمن الدواء.

أيُّ جريمة أن يواصل العالمُ الصمتَ تُجاه ما يحدث وكأنه يقع في كوكب خارج مجرتنا، وكان هؤلاء البشر مخلوقات غريبة قدمت من كواكب أخرى ولا علاقة لها بالعنصر البشري أو الإنساني. محنةُ السودان الراهنة ليست الأخيرة ولن تكون، ما دامت المؤامرة مُستمرة وما دام العالم يتسربل بالصمت ويُغمض عينيه عن الجرائم التي يتعرض لها الشرفاء في أكثر من مكان.

لعل أكثرَ الشروخ في الوجدان الإنساني هي تلك الماثلة في غزة ولبنان والأراضي الفلسطينية، حيث تحوَّل حُماة الديمقراطية وحقوق الإنسان وأساتذة القانون الدولي لمجرد شخوص، كأنَّ الحريقَ سيبقى بعيدًا عن أطراف ثيابنا، فيما يواصلُ العدوُّ الإسرائيليُّ الغطرسةَ والدَّمارَ وسفكَ الدماء في حالة نادرة للاستهزاء بالمؤسسات الدولية المعنية بحفظ السلم والأمن الدوليين، برعايةٍ ودعمٍ متواصلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية التي تتسيد عالمَنا اليوم دون بروز قوة دولية تناطحها في السيطرة والتَسَيُّد، أو نشر عباءة العدالة.

أيُّ كارثةٍ تقع حينما يقول الأطفال في السودان وفي أكثر من مكان في إفريقيا والشرق الأوسط إن العالم قد نسينا وتركنا تحت رحمة الجنرالات والقتلة وقُطَّاع الطرق … خطوات جسورة يجب اتخاذُها -على الفور- لإنقاذ ما يمكن إنقاذه حتى لا تنقرض هذه الشعوب قتلًا وجوعًا، أو غرقًا في أعالي البحار وهم يبحثون عن الوطن البديل … هذه الخُطوات يجبُ أن تقومَ بها المُنظمات الإقليمية والمنظمة الأم المعنية بشؤون البشرية، بخاصة مجلس الأمن الدولي، المعنيّ بمنع الكوارث التي يتعرضُ لها الناس في أكثر من مكان، ومنهُم أهلُنا في السودان.

السؤال الذي تجبُ الإجابةُ عليه: ماذا يريدُ جنرالاتُ الحرب وأمراء الموت؟… هل المشاركة في السلطة؟ … هل البحث عن نفوذ؟ … هل الحديث عن أحقية أسرية أو قبلية أو طائفية أو عقائدية في الحكم؟ … قد يكونُ كل هذا مطلوبًا وأكثر، ولكننا بدورنا نتساءل: ما ذنبُ النساء والأطفال والعجزة الذين أصبحوا وقودًا لهذه الحرب العبثية؟ الموت لا يفرِّخُ سوى الموت، والفوضى تطيلُ عذابات الكثيرين الهائمين على وجوههم في المَنافي والشَّتات أو القابضين على الجَمر في أرض الوطن.

تحت ظلال الفوضى والعبث يعجزُ التلاميذ عن الذهاب إلى مدارسهم، وتشير الإحصاءات الأممية أن نسبة الذهاب إلى المدارس في السودان أصبحت مُتدنية وهو مؤشر خطير لخسران جيل كامل، وانتشار الأميَّة وهذا لن يكونَ في مصلحة السلام والاستقرار والتنمية، فالعلمُ هو الذي يبني لا ثقافة الموت.. جُرحُ السودان ما زال يواصل النزيف، وما زال البحث جاريًا عن حكماء وعن الحكمة … حكمة أن نرفض الموتَ وننتصر للحياة، وحكمة أن نتَّحِد من أجل أن نصبح قوة للبناء وليس معولًا للهدم … وحكمة أن نلحق بالركب وأن نتمسك بالأصالة … ونجعل إنسان السودان سيِّدَ يومه وغده ومستقبله.

هل ما يحدثُ داء عضال أصيب به أهل السودان؟ … أم هو شيء عرضي لا يبرح أن يزول إذا تطهرت القلوب وتوفرت الإرادة واتضحت الرؤية؟. الأسئلة كثيرة ولكن ثمة إحساسًا عميقًا ودفينًا أن أحزان البشرية مدفونة هناك حيث عذابات الناس تقف شاهدًا صارخًا على استمرار المحنة واتساع المأساة … حيث الفساد نبتة استوائية تنمو في ظلمة عقول الناس وفي نفوسهم … تتوارى الشفافيةُ خجلًا وتتراجع طهارةُ اليد واللسان لتنمو للفساد أظافر من حديد تبطش وتسرق وتقتل وتحقق تزاوج المأساة بين السلطة الغاصبة والفساد المتفشي لتكتمل أضلاع المأساة ويكونَ الإنسانُ هو الضحية وتكون الأوطان هي المسالخ.

ما يحدثُ في السودان يحتاج إلى وحدة كل القوى السياسية بمختلف مشاربها لإنقاذ وطن من الضياع … وهو وطن ليس حكرًا على العسكر والجنرالات وإنما هو مملوك للجميع -مدنيين وعسكريين- وعلينا أن نتعايش وأن نُسقط خطاب الكراهية والتخوين.. الهتافُ الأجوفُ لا يبني وطنًا وإنما تُبنى الأوطانُ بالعمل الجماعي وبالاتحاد وتوافُق الرؤى.

أيهما أكثر رحمة ورأفة … الموتُ بالساطور أم الموتُ بالبندقية؟ … الموت هو الموت نتيجة واحدة لحدث مقيت … لكنه يختلف عندما يكون بالساطور لأنه يتسم بالدموية والهمجية والحقد المؤجل والثأر الكامن … الرصاصة لا تشفي الغليل، إنها تدخل من هنا لتخرج من هناك وليس فيها لذة التشفي … شئنا أم أبينا نحن أبناء وطن واحد وهو وطن يسع الجميع بلا إقصاء، ويحقق في ذات الوقت شعار ثورة ديسمبر المجيدة المنادي بالحرية والسلام والعدالة … حتى ننقذ وطنًا رائعًا اسمه السودان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X