أعرفُ أنّ وردةً واحدةً يُمكن أنْ تبدأ الرّبيع، ولكنّني أعرفُ أيضًا أنّ كلَّ المراثي كلّها لا تكفي لرثاء وردةٍ واحدةٍ تموت، فكيفَ إذا كانتْ هذه الوردة هي وردة غزّة، وردة شبابِها الّذين يدفعون فاتورة الدّم عن أمّتهم كافّة.

أيُّها الرَّاحلُ عنّا في عتمة الدّرب، ما زال الدّربُ بعدَكَ مُعتِمًا، لقد علَّمْتَنا أنّ شمعةً واحدةً يُمكن أنْ تهزِمَ جُيُوشَ الظّلام مُجتمعة، وأنّ نورًا يتسلّل من شقوق نافذةٍ يُمكن أنْ يقضي على بِحار من الظُّلُمات خلفَها، ولكنّهم أطفؤوا شموعَنا، وسَدّوا النّوافذ جميعها في وجوهِنا، فأنّي للنّور أنْ يجدَ مَنفذًا، كأنّ حالَنا غيرُ حالِ أمل دنقل حينَ قال:

«آهِ مَا أَقْسَى الجِدارْ

عِنْدَما يَنْهَضُ فِى وَجْهِ الشُّرُوقْ

رُبَّما نُنْفِقُ كُلَّ العُمْرِ كَيْ نَنْقُبَ ثَغْرَةْ

لِيَمُرَّ النُّورُ لِلأَجْيَالِ مَرَّةْ

رُبَّما لَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الجِدَارْ…

مَا عَرَفْنَا قِيْمَةَ الضَّوْءِ الطَّلِيقْ!!» .

لم يكنْ موتُه موتَ واحدٍ، وكأنَّ موتَه كان كلّ موت، كان موتَ أمّةٍ شاهدةٍ على ذبحك مُكبّلة من جهاتها السِّتّ لا تستطيعُ أنْ تتحرّك خُطوة، كأنّما «ضاقَ فِتْرٌ عن مسير» . عشْتَ غريبًا ومتّ غريبًا، وما ضرّكَ غُربةٌ تُفضي إلى ما أفضيْتَ إليه من عِزّة يتمنّاها شُرفاءُ الأرض، لقد كانَ موتكَ قاصِمًا لأنّه موت خلائق كثيرة في أرواحنا، تظهرُ في هذا الشّعور الذّابح بالقهر، وصوتُ عبدة بن يزيد يُلهِبُ بسوطِ الحقيقة ظهورَنا:

وما كان قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ واحدٍ

ولكنّه بُنيانُ قومٍ تهَدّمَا

أيّها الرّاحل والمساءاتُ حزينة، والنّهرات أشدُّ حزنًا، ونحنُ ما زلْنا نسأل في ذهولِ ما أصابَنا كأنّ الموتَ مُحرّمٌ على الأبطال: «أَحَقَّا مثلُه ماتوا؟» . أيّها الغائب الحاضر، الشّاهد، الّذي له في قلوبنا ما في قلوب التّائقين إلى الحرّيّة الّتي تُنتزَعُ انتِزاعًا، إنّ موتَك بعثَرنَا في السُّبُل حيثُ لا يُهتَدى فيها إلى نور، فكأنّ حالَنا تلك الّتي لَخّصها أبو تمّام في قوله:

كأنّ بني نبهان يومَ وفاتِه

نُجُومُ سماءٍ خَرّ من بينها البدر

ومع هذا الألم، لا بُدّ أنّ هناك مساحةً للأمل مهما بدتْ ضيئلة أو مَخنوقة. أُوقِن أنَّ موتَ الأبطال حياةُ الأمم، وأنّ نهاية الشُّجعان بداية الكرامة، وأنّنا سنحكي عنكَ كثيرًا، تدفعُنا دموعُ الفَقْد إلى أنْ نتحرّر من القيود كما تحرّرْتَ، وأنّ نشعر بالفخر ونحنُ نرى الاحتِلال قد سرقَ جُثّتَكَ من أجلِ أنْ يُشرّحوا دماغكَ لكي يعرّفوا للبشريّة معنى الحُريّة، فقد غابتْ عن كثيرين. مضيتَ إلى ما تشتهي، فلا فرقَ أن نعرف إنْ كانتْ ستطول سرقةُ جسدِك الشّريف أم ستقصُر؟ ستُدفَن في الأرض أمْ في غير هذا الكوكب الآثِم، لكنّ الحقيقة في هذا الشّأن ردَّدها أبو تمام قبل حوالي اثني عشرَ قرنًا:

مضى طاهرَ الأثوابِ لم تبقَ روضةٌ

غداةَ ثَوى إلاّ اشتهتْ أنّها قَبْرُ.

 

[email protected]

AymanOtoom@